نلجأ دائمًا إلى ما يقول الآخر عنا، أو عن شخصية منا أو قضية تخصنا لنزداد ثقة بالشخصية أو القضية؛ كأننا لا نثق بأنفسنا وشخصياتنا وقضايانا، فنحتاج إلى الآخر لكي يزيد من تمسكنا بالشخصية أو القضية. يسعدنا أن يمدح المستشرق الفلاني شخصية عربية أو إسلامية، فنطرز قوله رايةً لنا، نملأ بها صحفنا ومجلاتنا وشاشاتنا ومواقعنا الاجتماعية. ونفرح إن تحدث غربيّ عن قضية من قضايانا لنحتج بقوله هذا، وننسى أن ما لدينا من حجج وأدلة أعظم من قول هذا الغربيّ.
يسمّي بعضهم هذا الأمر بعقدة النقص أمام الأجنبي. يسميه بعضٌ آخر بعدم الثقة في الدفاع عن قضايانا. ويسميه آخرون أسماء أخرى.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أتحدث هنا عن الروائي الكولومبي الراحل غارسيا ماركيز ودفاعه عن القضايا العربية؟ ربما لتذكير من نسي من أبناء الأمة بأن لدينا قضايا يجب أن نناضل من أجلها، وربما لإثارة بعض النخوة لدى هؤلاء حين يعلمون أن روائيًا أجنبيًا اهتم بقضاياهم أكثر من اهتمامهم هم بها. كلا الأمرين ممكن، لكن الذي لا شك فيه أن من واجبنا أن نتحدث عن ماركيز ومناصرته لنا، تقديرًا منا لمواقفه، ولكي لا نكون من ناكري الجميل أو قليلي الوفاء.
ناصر ماركيز حركات التحرر العالمية، من الجماعات الثورية في أميركا اللاتينية وصولًا إلى الثورة الفلسطينية. وكانت له مواقف تجاه الإمبريالية الأمريكية أدت إلى اعتباره شخصًا مخرِّبًا، ومُنع من الحصول على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة لسنوات عدة.
تعرف ماركيز إلى القضايا العربية في باريس، يوم كان الفرنسيون يواجهون ثورة الشعب الجزائري المنتفض في سبيل تحقيق استقلاله. وهناك كانت له علاقات ببعض الوطنيين الجزائريين الذين شرحوا له أحقية القضية الجزائرية. والطريف أنه تعرض مرات عدة للاعتقال بسبب سحنته المشابهة لسحنة الجزائريين المقيمين في فرنسا، يتظاهرون للتنديد بالاحتلال الفرنسي للجزائر.
وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد أعلن ماركيز في مناسبات عدة عن تأييده لحق الشعب الفلسطيني في أرضه الفلسطينية، منددًا بالعدوانية الإسرائيلية والزعماء الإسرائيليين. ومن مواقفه الشهيرة في ما يتعلق بهذه القضية استئجاره - بماله الخاص- صفحة من صفحات جريدة "ال اكسبرسو" لينشر فيها بيانًا في بداية تشرين الأول من العام 1982، يندد فيه بمذبحة صبرا وشاتيلا، وجاء فيه:
"منح جائزة نوبل للسلام لمناحم بيغن هو أمر لا يصدّق. المهم أن بيغن هو فعلًا صاحب هذه الجائزة ولا سبيل الآن لتبديل ما حدث؛ فهو صاحب الجائزة منذ مُنحها العام 1978 مع الرئيس المصري آنذاك أنور السادات عند توقيعهما، على انفراد، اتفاقية السلام في كامب ديفيد. لم يحظ الاثنان بنفس المصير: فمصير السادات كان التبرّؤ الفوري منه في العالم العربي، ولاحقًا قتله، أمّا بالنسبة لبيغن، فالاتفاقيّة خوّلت له المباشرة بمشروع استراتيجي لم يُختتم بعد، والذي اُشبع قبل أيام قليلة بمجزرة وحشيّة لأكثر من ألف لاجئ فلسطيني في أحد مخيّمات بيروت. لا توجد جائزة نوبل للموت، ولكنّها إذا وُجدت فقد تُمنح هذا العام، وبدون منافسة، لمناحيم بيغن وسفّاحه المحترف أريئيل شارون".
تلك كانت لمحة بسيطة عن مواقف هذا الكاتب الكبير، عسى أن نتعرف، نحن العرب، إلى الأدباء والعلماء والفلاسفة والمثقفين الأجانب المناصرين لقضايا أمتنا، قبل وفاتهم، لا بعد رحيلهم المؤسف، خاصة أن المناصرين لقضايانا من الأدباء والعلماء والفلاسفة والمثقفين الأجانب ليسوا كثيرين في هذا العالم.