الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
بدأت المعركة، عشرات البنادق بأيدي قلة كانت تدافع عن كرامة وتراب هذا الشعب وهذه الأمة. في وجه أكثر من اثني عشر ألفًا من الجنود الصهاينة، ومئات الآليات العسكرية والطائرات ومنصات الصواريخ. هذه القلة كانت مع كل طلقة تطلقها تصفع تلك الجيوش، وأرتال الدبابات وأسراب الطائرات، من محيط أمة العرب إلى خليجها.
مدينة جنين
لمن لا يعرف مخيم جنين بجغرافيته. إنه مساحةً يقع في حدود الكيلومتر المربع الواحد، داخل منطقة جغرافية معقدة جدًا ليست في مصلحة المقاومة. السبب في ذلك أن هذه المساحة تنحدر من أسفل قمة جبل الجابريات بأمتار قليلة اتجاه قلب المخيم المنبسط، فعندما تقف أرتال الدبابات الصهيونية على قمة الجابريات يكون مخيم جنين والمدينة مثل الكف المنبسط أسفل منها، بل كل حركة في معظم المخيم مكشوفة لهذه الدبابات.
هنا السؤال: لماذا لا يمكن المقاومة أن تتمركز وتسيطر على هذه القمة الجبلية؟، والحديث للأسير ثابت مرداوي. هذه المنطقة الأخيرة -الجابريات- لا يمكن للمقاومة أن تفعل فيها أكثر من زرع بعض العبوات، لأنها قمة جبلية مرتفعة قياسًا مع المدينة والمخيم، ومساحتها أكثر من ضعفي مساحة المخيم. كل من يقف فيها يكون مكشوفًا وجهًا لوجه مع صواريخ الطائرات ونيران المدفعية. هذا ما لا تقدر عليه المقاومة ببنادقها الفردية الخفيفة.
أما من جهة عدد المقاومين، فقد كانوا في حدود المئة: بعضهم كان معه بنادق من تصنيع محلي، وقسم آخر كان معه بنادق قديمة جدًا.
احتفالًا بالموت القادم
ما إن تناهى إلى أسماعنا أن الحملة الصهيونية الجديدة على معاقل المقاومة باتت قاب قوسين أو أدنى، دبّت في المخيم حركة غريبة لا يدرك مبعثها إلا من عاشها. حركة أقرب ما تكون إلى البركان الثائر لكنها في الوقت نفسه سلسةٌ هادئة. كل شيء في المخيم كان يتحرك ويتكلم كأنه في الوداع الأخير. حتى البيوت والشجر كلها كانت تودع ساكنيها.
العشاء الأخير!
"هذه المرة تختلف بكل تأكيد عن سابقاتها". على كل لسان في المخيم تجد هذه العبارة تتردد وتحتل الصدارة بين كل العبارات التي يمكن أن تقال. من لاحظ طبيعة وحجم التحضيرات الصهيونية العسكرية والسياسية والإعلامية، وكل من قرأ الواقع السياسي جيدًا أدرك مدى المأزق الذي بات يمثله مخيم جنين للكيان وغيره. المخيم أصبح معقلًا لحركة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكري سرايا القدس خاصة، وبقية الفصائل المقاوِمة عامة.
قالوا إنها ستكون عملية كسر عظم. بدأ الطابور الخامس بث الإشاعات، وطُلب من بعض المقاتلين مغادرة المخيم بحجة الخوف على حياتهم لأن الطرف الآخر -أي العدو- "مصمم على دخول جنين هذه المرة حتى لو اضطره الأمر إلى هدم المخيم على رؤوس أهله". رغم كل ذلك كان قرارنا واضحًا: خوض هذه المعركة تحت كل الظروف ومهما كان الثمن.
محاور الدخول
لجنين أربعة مداخل، وباللغة العسكرية أربعة محاور. من هذه المحاور تدخل أرتال الدبابات القادمة من: معسكر دوتان القريب من بلدة عرّابة، ومحور جنين-حيفا وعليه يقع معسكر سالم، ومحور جنين-الناصرة، والمحور الشرقي (محور الألمانية)، ومنه تدخل الدبابات القادمة من معسكر بيزك قرب الزبابدة.
ما إن تحركت المدرعات والدبابات من المحورين الرئيسيين (دوتان وسالم) اتجاه جنين حتى انتشر الخبر كالنار في الهشيم، لأن الجميع كانوا في حالة ترقب وانتظار.
دقّت ساعة الصفر، جزء من الطلقات النارية كان يوقظ النيام، وآخرون يحتفلون باقتراب عرس الشهادة. مواعظ الخطباء كانت تنطلق من كل أزقة المخيم: هذا يصف الجنة، وذلك يتحدث عن ضرورة خوض هذا الصراع ضد العدو، وآخر يؤكد ضعف الروح المعنوية لجيش الغزاة.
بداية المعركة
ما إن اختفت شمس الثلثاء 2/4/2002 حتى كانت الدبابات والآليات الصهيونية تحكم طوقها على مخيم جنين، وتتمركز على مقربة من جميع مداخله وتسيطر على جبال الجابريات. المدينة لم يكن حالها مختلفًا فقد كانت هي الأخرى مسرحًا للدبابات، باستثناء البلدة القديمة التي تمركز فيها عناصر المقاومة.
بينما كانت الدبابات تزحف وتحكم الخناق على المخيم كانت الطائرات تحلق في سمائه، استعدادًا لصب حقدها على عشرات المقاتلين وآلاف المواطنين المدنيين. سبق عملية الزحف والإحكام هذه، مسح شامل لكل موقع وبؤرة وشارع وزقاق وبيت، وتصوير لكل ما ذكر بواسطة طائرات الاستطلاع التي ترسل تمد مركز عمليات العدو بصور مباشرة.
في الوقت نفسه، كانت طائرات الهيلوكبتر تنفذ قصفًا مكثفًا تمهيدا للاجتياح البري، الذي قدر له مخططوه أن يحسم المعركة. تمامًا مثل الحروب والمعارك العسكرية الكبرى - إن جاز لنا التعبير- .
كل 8 ثوانٍ
كان القصف شديدًا وعنيفًا حدّ الجنون. وصل أحيانًا كثيرة إلى سقوط صاروخ كل ثمانية ثوانٍ. رصاصات الرشاشات الثقيلة من عيار (800) و(1200ملم) تهطل مع الصواريخ من الطائرات نفسها. أكثر المناطق عرضة للقصف كانت حارة الدمج والحارة الغربية وحارة الحواشين التي تمثل قلب المخيم. هذه الحارات الثلاث هي التي شهدت معظم المعارك الأشد ضراوة.
وظيفة سلاح الطيران في المعارك معروفة، ومن أهمها ضرب خطوط الدفاع والتجمعات وقطع خطوط الإمدادات والاتصالات وإضعاف قوة الخصم وتشتيتها وإفقادها التوازن حتى إلحاق الهزيمة بها، وفق هذا المنطق تعامل معنا جيش الاحتلال.
خطوط دفاع المقاومين كانت تلك العبوات الناسفة المزروعة، والمقاتلين والقناصة المتمركزين على المحاور والمداخل الأساسية، وهي نفسها أهم الأهداف لقصف الطائرات. لم نكن نملك سوى العبوات لصد الدبابات. لكن كيف استطاع العدو أن يبطل مفعول العشرات من هذه العبوات، وهي مدفونة في الأرض أو منصوبة على حواف الشوارع والطرق؟...
يتبع.