الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
شهر واحد، كان المسافة الزمنية بين معركة الدفاع عن جنين وآخر اجتياح للمخيم. شهر حافل بالأحداث والاستعدادات، ولو أن ما فيه من الأحداث وُزّعت على سنة بأكملها لشغلت كل ثوانيها.
رافق الاجتياح ما قبل الأخير لجنين اقتحام شبه كامل للضفة المحتلة، بعد أن ارتكب الاحتلال سلسلة من المجازر في جنين وطولكرم وبيت لحم وصولًا إلى جباليا (2/3/2002).
ضمن هذه الظروف، ومن منطلق المقاومة لا رد الفعل، جاءت عمليات سرايا القدس/ الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي بعنوان (غضب المخيمات). بدأت بعملية استشهادية في قطاع غزة (مارس 2002)، وأخرى في بيت لحم، ثم ثالثة في العفولة داخل الأراضي المحتلة.
العملية الاستشهادية الرابعة كانت قرب قرية مصمص، وقتل فيها 10 من العسكريين الصهاينة، وأصيب ما يزيد على 22 أيضًا.
قبل الاجتياح الأخير تم الإعداد لعملية خامسة لكنها نُفِّذت أثناء الاجتياح الصهيوني، وكانت قنبلة مؤقتة أدت إلى زلزال أمني لدى النخب الإسرائيلية.
من هنا جاء القرار الإسرائيلي بالرد، في عملية سماها أرييل شارون "السور الواقي"، وإذا علمنا أن المقاومة في جنين كان معظم مخزونها من الذخيرة والمتفجرات والعبوات الناسفة (خاصة مخزون سرايا القدس) قد نفد في صد الاجتياح ما قبل الأخير، يمكن أن نتصور المجهود الضخم الذي بذلته المقاومة في التجهيزات للمعركة.
قبل ذلك، تعرض المخيم والمدينة لستة اجتياحات، كل واحد منها أكثر عنفًا وشدة من سابقه. كان الاحتلال ينفذ عمليات "جس نبض" يستخلص منها العبر والدروس حتى يكوّن تصورًا شاملًا عن بؤرة المقاومة ومدى قدرتها على الصمود، وأماكن قوتها وضعفها. كل هذه المعلومات جمعها الاحتلال بالممارسة من الاجتياحات السابقة، وعن طريق عملائه، ووظّفها لخدمة الهدف النهائي: القضاء على المخيم وقاعدة المقاومة فيه.
بعد انتهاء الاجتياح ما قبل الأخير، انكبت عناصر المقاومة في المخيم (تحديدًا السرايا لاطلاعي على ما فعلته كوني عضوًا فيها) على العمل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: مواصلة العمليات الاستشهادية، بناء على أنها الخيار الوحيد في مواجهة الاحتلال من دون النظر إلى الوضع الدولي، وما عجّل تنفيذ العمليات هو حجم الجرائم التي ارتكبها الاحتلال.
الاتجاه الثاني: تعويض نقص الذخيرة والمواد المتفجرة التي استخدمت في صد الاجتياحات، فكانت سياستنا الحفاظ على مخزون كافٍ نوعًا ما، وفق إمكاناتنا وما هو موجود في الأسواق الخاصة. وقد خُصصت لذلك لجان لكل منها مهماتها في شراء وتحضير المستلزمات، لكن هذه التجهيزات كانت لتعويض النقص ولم تكن لمواجهة الاجتياح الكبير، لأننا لم نتوقع أن يكون الاجتياح التالي والأخير على هذه الدرجة والعجلة.
صحيح أن الاحتلال أراد أن ينتهي من عقدة اسمها المخيم، ولكن في تقديرنا أن ما عجل في تنفيذ هذا الأمر سببان: الأول قطع الطريق على المقاومة حتى لا تلتقط أنفاسها وتجمع أوراقها من جديد، وذلك بالضربات المتلاحقة وصولًا إلى المواجهة الأخيرة.
السبب الثاني أن الاحتلال حصل على معلومات مفادها أن هناك أساليب ومواد متفجرة جديدة قوية جدًا وسهلة التحضير، بل يمكن تجهيز كميات كبيرة منها في مدة قصيرة.
هذا كله تبين لنا أثناء تحقيق المخابرات الصهيونية بعد الاعتقال. لقد كان واضحًا مدى تركيزهم على هذه المواد، وكيف كانوا ينظرون إليها بخطورة، بل كانوا يعتقدون أن هناك نقلة نوعية في تنفيذ العمليات واختيار الأهداف وطبيعة المواد المستخدمة فيها، نظرًا إلى العدد الكبير من الجنود الذين كانوا يُقتلون في ضربات المقاومة الأخيرة.
عندما تبين لنا أن الاجتياح التالي بات قريبًا جدًا، أي أيام معدودة، وضعنا أنفسنا في حالة استنفار وتأهب قصوى. المفاجأة أن بعض قطع السلاح وصل سعرها إلى أكثر من الضعف، لأنها صارت تخضع لقواعد السوق وقوانين العرض والطلب.
فقدان الصواعق!!
أما على صعيد المواد المتفجرة بأنواعها المختلفة فاشترينا 6 أطنان من مادتين فرعيتين تستخدمان في تحضير المتفجرات، وكان على رأس هذا العمل القائد محمود طوالبة، الذي وصل الليل بالنهار حتى استطاع أن يجهز طنين من المواد بصورتها النهائية في غضون عشرة أيام فقط.
بعد تجهيز المادة انكب الطاقم نفسه على إعداد العبوات الناسفة بأحجامها وأشكالها المختلفة، منها ما هو مخصص للآليات والمدرعات أو الأفراد، وأكثر من ألفٍ من العبوات الصغيرة التي كانت تضرب باليد وتوازي القنابل اليدوية (الميلز)، من حيث المهمات وطبيعة الاستخدام، وكانت تسمى "الأكواع".
هذه العبوات كلها وُزعت على جميع المحاور والمداخل، ونُصبت في الأماكن المحددة وفق خطوط الدفاع في المعارك العسكرية، أي إذا لم ينجح الخط الأول في الصمود وجرى تجاوزه، يكون خط الدفاع الثاني والثالث وهكذا.
كذلك أبقينا على كمية من العبوات الناسفة الجاهزة دونما زراعة تحسبًا لأي طارئ، ولسد أي ثغرة أو نقطة أهملت ولم تؤخذ بالحسبان. زرعنا عبواتنا في الشارع الرئيسي للمخيم الممتد من الشرق إلى الغرب بمدخليه، ثم الشوارع الفرعية والساحات الأساسية في المخيم، ومنطقة دوار مستشفى جنين على مدخل المخيم الشرقي.
مقاومان في جنين
مشكلة أخرى واجهتها المقاومة في المخيم تتعلق بصواعق القنابل اليدوية المصنعة محليًا (الأكواع)، فقد كانت هذه الصواعق متوفرة في الأسواق إلى أن عرضت إحدى الفضائيات برنامجًا قبل الاجتياح بمدة وجيزة بيّن ماهية هذه الصواعق.
في الواقع، الخطأ ليس خطأ الفضائية بقدر ما هو خطأ أخ من عناصر المقاومة شرح مثل هذه المعطيات عبر الفضائيات، ففي النتيجة تضاءلت كميات هذه المادة في السوق حتى انعدمت تمامًا، وهذا أدى إلى إضعاف تأثير هذه القنابل المحلية لما تتمتع به من أهمية، لأنه من الصعوبة إيجاد بدائل عن هذه الصواعق بفعالية وسرعة تحضير مشابهة.
أول شهيد
على صعيد التجهيزات الطبية، جهّزنا بعض الإسعافات الأولية والأدوية، و لاسيما التي تساعد على وقف النزيف وتمنع التهاب الجرح وتعفنه. كنا نتوقع ألا نستطيع إخراج الجرحى، وكذلك لن يسمح الاحتلال لسيارات الإسعاف بالوصول إلينا، وهذا ما حدث بالفعل، لذلك كوّنّا طاقمًا طبيًا بتجهيزات متواضعة، وكان الاتفاق على أن تتولى الخدمات الطبية العسكرية في الأمن الوطني هذه المهمة بمساعدة الجهات المتخصصة.
في الليلة التي سبقت الاجتياح، تفقدنا المستشفى الميداني الذي كان فيه طاقم من الممرضات وخمسة أسرّة وبعض أسطوانات الأكسجين. رغم تواضع هذا المستشفى ارتحنا لوجوده وأزاح عن صدورنا همًا ثقيلًا لا يمكن وصفه، فليس هناك ما هو أصعب على النفس من أن ترى زميلًا أو صديقًا ينزف، وصرخات ألمه تردد صدى المستنجد وأنت عاجز عن فعل شيء!
الصدمة أنه في الساعات الأولى من ليلة الاجتياح في المحور الذي كنت فيه (حارة الدمج وشارع الغبز)، ارتفع أول شهيد وأصيب أول مقاومَيْن في الاجتياح. حملنا أحد المصابين وذهبنا به إلى المستشفى الميداني، وإذا به مغلق. بعد طول استفسار، تبين أن الشهيدة الممدة على الحافة الشرقية من الشارع، هي الممرضة فدوى الجمال. كان من المفروض أن تدير هي المستشفى. باستشهادها اغتيل حلم إقامة المستشفى الميداني. مع ذلك كنا نتساءل: هل من المنطقي أن يعهد لممرضة إدارة مستشفى ميداني في معركة يتوقع إصابة المئات فيها؟. أين بقية الطاقم؟ لقد كان المدير والطاقم والعاملون هم فقط هذه الشهيدة البطلة!
حتى اليوم لا أزال أفكر: هل هي مجرد مصادفة: أين اختفى دور الخدمات الطبية العسكرية التابعة للسلطة، وهي كانت قد تعهدت بفتح هذا المستشفى وإدارته؟.
مكبرات صوت
الجيد أننا أحضرنا مكبرات الصوت لاستخدامها في الخطابات ورفع الروح المعنوية، وأيضًا لاستخدامها في التخاطب مع جنود الاحتلال والتأثير على معنوياتهم المنهارة أصلًا، ولنشرح لهم عبثية ما يصنعون، وأن حكومتهم أرسلتهم إلى هنا ليلاقوا حتفهم ليس إلا.
أما أهم ما فعلناه هو صنع ثغرات وفتحات في جدران البيوت، فلولا هذه الثغرات لتقلصت حركتنا أو ربما حدث الشلل الكامل، نتيجة للقصف المتواصل من الطائرات التي لم تغادر سماء المخيم لحظة واحدة. لقد استفدنا من هذه الثغرات في نصب الكمائن وقتل عدد من جنود الاحتلال.
الأمر الثاني هو زرع قناصة على بعض الأسطح والنوافذ، وهذا كان جزءًا مهمًا من التحضيرات. جرى التمويه على نقاط القنص، وتم اختيار العناصر المكلفة بالمهمة بعناية تامة. لقد عدل هذا التكتيك جزءًا من اختلال ميزان القوى.
بكل ما تقدم، كانت المقاومة قد فرغت من التجهيز الأولي لنفسها، وفق ما سمحت به إمكاناتها البسيطة، وعامل الزمن الضيق. نحن الآن على بعد دقائق معدودة من المواجهة والترقب سيد الموقف... يتبع.