الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد
لو قدر لعجلات الزمن أن تعود بنا إلى ما قبل الأول من نيسان من عام 2002، أي ما قبل الاجتياح الصهيوني الكبير في مخيم جنين، ووجه إلينا عندها الشهداء والأحياء السؤال التالي: الآن بعد أن رأيتم ما وقع، وحدث لكم ما حدث، ماذا تختارون: البقاء في المخيم أم الخروج منه، ولو من باب تكتيك عسكري يفرضه واقع اختلال ميزان القوة الفاضح؟
أجزم هنا -الحديث للأسير ثابت مرداوي- نيابة عني وعن جميع إخواني الشهداء والأحياء بأن القرار سيكون هو نفسه: قرارنا الذي كان، بل سيهتف الجميع بصوت واحد: لا للخروج من المخيم، نعم للبقاء في المخيم وليكن ما يكون.
هي رواية واحدة للتاريخ لها وجه واحد، ومن أجل الحفاظ على هذا الوجه دونما تلاعب أو إضافات، هذه الكلمات شهادة للأجيال وللتاريخ نفسه.
ملحمة جنين
لقد احتلت ملحمة مخيم جنين مساحة واسعة من وقت وفكر كثيرين من العرب والمسلمين وغيرهم من المعنيين والمهتمين، وذلك لما مثلته وستبقى تمثله من معاني العزة والكرامة، ومن أن عند هذه الأمة من القوة ما لم تظهره بعد. هذه الملحمة البطولية ستظل تحتل مساحة تزداد مع الزمن في ذاكرة الأمة والأجيال القادمة. لكن، علينا الحفاظ على هذه الذاكرة وحمايتها من التشويه والتزييف.
كنت أحد الذين كان لهم شرف المشاركة في هذه الملحمة، من ثوانيها الأولى إلى ثوانيها الأخيرة. كنت شاهدًا على كل التحضيرات التي سبقت الملحمة، لذلك فإن دماء شهدائنا الأبطال وجهد كل المقاومين الحقيقيين وتعبهم، أمانة لا يُسمح لأي كان أن يسرقها عبر بعض الروايات والقصص عن ملحمة المخيم، وأغلبها لا يمت إلى الواقع بصلة.
قرار الحرب
الحرب عند الصغار لعبة من ألعابهم يمارسونها في طفولتهم، لكنها عند الكبار خيار لا مفر منه، بل لا بد من اتخاذه، ففي لحظة معينة هناك قرار يجب عليك أن تتخذه ثم تحمل كل تبعاته وأعبائه بغض النظر عن الظروف، بعيدًا عن حسابات الربح والخسارة.
هذا صوت الشهيد محمود طوالبة يمزق صمت هذا العار، فهو صرخ في وجه (الإسرائيلي): لن تمر جنازير دباباتكم إلا على جسدي. جاء صدى صوته في صوت الشهيد الطاهر طه الزبيدي: لن تحرق نيرانكم بيوت المخيم قبل أن تحرق جسدي.
مثلهما ستكون إجابة كل الشهداء من منير الوشاحي وعبد السارة، مرورًا بزياد العامر ونضال النوباني والشيخ رياض بدير ومحمود الحلوة وشادي النوباني ومحمد وأمجد الفايد، وصولًا إلى الشهيد أبو جندل وكل الذين صنعوا المجد وكتبوا بدمائهم الزكية فصلًا مشرفًا من تاريخ الأمة.
أما نحن الأحياء الذين قُدر لنا أن لا ننال ما نالوا من نصر ومجد الشهادة، فلا نملك إلا أن ننحاز بتعصب إلى خيار وقرار أسيادنا الشهداء، ونعلن: نعم للخروج إلى المخيم.. نعم للدخول إلى المخيم.
ثابت مرداوي والشهيد محمود طوالبة
أما الرأي الآخر فانطلق من جانب مادي عسكري بحت، ولكن رغم بعض الأخطاء التي وقعت فيها المقاومة داخل مخيم جنين على أكثر من صعيد، فإن الحديث هنا ليس لمناقشة هذا الأمر، وإن كان من الضروري مناقشة هذه التجربة في دراسات لاحقة.
لا شك أن ما جرى في مخيم جنين خسارة للمقاومة وفقا للحسابات العسكرية المادية الصرفة، ولكن من ناحية أخرى هو انتصار بكل معنى الكلمة، لأنه انتصار للروح والإرادة المقاتلة الصلبة، وانتصار للدم الزكي على الدبابات والمدرعات والطائرات الصهيونية.
فوق كل ذلك هو شهادة للتاريخ، أن هذه القلة المجاهدة التي صمدت وصدقت استطاعت أن تحقق أسطورة بإمكانات قليلة متواضعة، نخجل أحيانًا من تعدادها خوفًا من أن يقال: أهذا فقط ما كنتم تمتلكون؟!
إضافة إلى ذلك استطاعت المقاومة، خلال مدة وجيزة جدًا، أن تتأقلم مع الظرف الجديد وتتجاوز عقباته وتحدياته، وتوجه إلى الاحتلال ومستوطنيه ضربات موجعة أكثر قوة وأكبر حجمًا من تلك التي وجهتها إليه في ما سبق ملحمة المخيم.
كيف تم ذلك؟ لأسباب عدة منها: وجود تجربة سابقة وأرضية جاهزة للمقاومة، والتعامل مع الواقع الجديد والعمل تحت الأرض التي تقف عليها دبابات الاحتلال ومدرعاته، ولكن الخوف الحقيقي على المقاومة يأتي من تلك الخناجر المشبوهة التي ستعمل على طعنها من الخلف!
معركتنا مع العدو ليست معركة أيام ولا جولات، لذلك هنالك كثير من الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها للمستقبل، وهي دروس تبين حقيقة هذا الجيش الصهيوني الذي يمتلك من الجبن والخوف أكثر مما يملك من معدات وترسانة عسكرية على كثرتها.
لن أبالغ حين أقول إن الملحمة البطولية التي شهدها مخيم جنين مثلت نقطة تحول في تاريخ المقاومة الفلسطينية، ودشنت، في الوقت نفسه، مرحلة مهمة جدًا سيشهدها التاريخ الفلسطيني القادم، وسيقال إن ملامح هذه المرحلة خرجت من رحم معركة جنين...
يتبع