جئتَها جنوبًا أم شمالًا! كل الاتجاهات تشير إلى فلسطين. على رأس هذا الجبل يمكن أن تعرف كم كانت طريق التحرير صعبة أو قل مستحيلة.
تشعر بمعاناة السيارة التي تكافح عجلاتها، وهي تصعد 1100 متر للوصول إلى مليتا. تلك الانعطافات الخطيرة في الطريق، تجعلك تحار كيف كان المقاومون يصعدون الجبل. أكثر ما يقربك من الصورة المتخيَّلة تشابك أشجار السنديان والبلوط التي تغطي سفوحه.
مع شدة الشوق إلى رؤية المَعْلم، تسرع إلى الدخول قبل قطع التذاكر. يوقفك حراس البوابة ليذكروك بالإجراءات، فتنهيها على عجالة، وتخف مسرعًا إلى الداخل.
السيد حسن نصر الله يرحب بالحضور. نعم، فالمكان فعلًا يستحق أن يسجل له السيد كلمة مصورة، يتبعها فيلم تعريفي عن المكان: مليتا، حكاية الأرض للسماء.
لم يذكر السيد نصر الله تفسيرًا واضحًا لتسمية المعلم، سوى انها مطابقة لتسمية المكان. أما مليتا، فهي كلمة سريانية تعني المكان الممتلئ، الذي يفيض منه الماء.
المرشدون في معْلم مليتا تحدثوا عن أن التفكير في إنشاء هذا "المعرض" بدأ منذ زمن بعيد، وأصبح حاجة ملحة بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006". الغرض في ذهن المسؤولين هو إبراز إنجازات المقاومة على طريق تحرير الجنوب اللبناني وفلسطين.
من المفارقات أن مكانًا واسعًا في المعلم يحتوي بقايا الدبابات الإسرائيلية، هو ليس إلا آثار القصف الصهيوني على الجبل في حرب تموز، حيث تكوّنت حفرة كبيرة، وُسِّعَتْ لاحقًا وسميت بـ"الهاوية".
تتحضر للذهاب إلى الهاوية التي تحدث عنها السيد. هو نفسه كان في بنت جبيل قد شبه (إسرائيل) ببيت العنكبوت. هنا ترى فعلًا الدبابات الإسرائيلية وبقايا المروحيات العسكرية، واقعة في شكل فني يشبه الشباك.
تُطل من أعلى. أنت الآن واقف على جبروت الاحتلال. تحتك اسم جيش الكيان باللغة العبرية وحروفه مكسرة. فوق كل هذه التركيبة التشكيلية السريالية توقيع الحاج رضوان (عماد مغنية)، بجواره رسم لصقر حادّ النظر والبصيرة.
يشدّك من بعيد صوت وجداني. إنه السيد عباس. ما يزال حاضرًا هنا. بعزيمته التي كان يوزعها على المقاومين فصاروا أبطالًا وما يزالون. ذلك المكان الذي كنا نشاهده في الأفلام، أمامنا الآن: مغارة صغيرة للسيد. فيها سجادة الصلاة وكتب الأدعية تعلوها صورته.
تطيل الوقوف أمام المشهد الذي يشلّ أركان الجسد. يستعجلك المرشد معتذرًا بالوقت. فهناك الكثير الشائق لم نره بعد. تغادر لكنك تقطع عهدًا بأنك ستعود لتجلس بجوار المغارة، وتمد يدك للدعاء مع السيد. لولا المفاجآت الباقية ما كان لأحد أن يغادر تلك البقعة.
الأقدام تعبر في أرض ممهدة لمشي الزائرين. هذه لم تكن كذلك في العام 1982، عندما كان المقاومون يكتبون سطور المعارك. من هنا انطلقوا ليحرروا المواقع المحتلة في الجنوب. تراهم عن يمينك ويسارك في مجسمات فنيّة. أرواحهم ترافق المكان. هنا زاوية أُحيطت. ما الخبر؟ من هذا المكان ارتقى شهيد.
كيف لم يرهم الاحتلال؟ لعل لشجر السنديان ميزة تساعد على إخفاء الدلالات الحرارية لتحركات المقاومين. هؤلاء تماهوا بحسّهم مع الأرض التي كانت غطاء لهم من قصف الطائرات المعادية.
حتى ألسنة اللهب لم تصلح لتحرق الأرض، ومعها القنابل العنقودية. فمن لطف الله أن أمطرت الغيوم يوم قرر الإسرائيلي حرق أشجار الجبل ليكشف المقاومين، وفق ما نقل لنا أحد المعرّفين.
بدأنا نشعر بالتعب ونحن نصعد الدرج. يصرخ أحد الواقفين: "ياه، كيف كانوا يحملون السلاح ويصعدون؟ كيف كانوا يعيشون في الحر والبرد؟". لا جواب إلا الصمت، أو رؤية نتائج العزيمة التي تصنع المستحيل من أجل الله، والوطن، والناس.
هذه العزيمة كانت كافية ليشق مئات المقاتلين نفقًا طوله 200 متر داخل الجبل، مخرجين آلاف الأطنان من التربة والصخور بحذر وصمت، على مدار شهور متواصلة من العمل. داخل النفق حياة أخرى: مبيت وغرفة عمليات ومصلى، وأرض ترتج من شدة القصف.
نفق آخر يصل بك إلى "دشمة مخفية"، خُصصت لاستهداف موقع "سجد" المقابل. نهارًا، كان المقاومون يضعون قماشًا مبلولًا بالماء لإخفاء غبار الرصاص، وليْلًا يرسلون طلقاتهم واحدة واحدة حتى لا يُكشف مكانهم.
ما هذا العشق للأرض الذي يدفعهم إلى نحت الصخر!. مع قليل من الخبرة كان الصخر منحوتًا بطريقة تبرز فيها المثلثات لاحتواء ارتجاج القصف والصوت العالي، حتى لا ينهار النفق.
تلاقيك أخيرًا ساحة، عرضت فيها المقاومة أسلحة متنوعة استخدمتها طوال سنوات التحرير. في المقابل، هناك معرض داخل قاعة مغلقة للأسلحة الإسرائيلية التي بقيت في لبنان، أو غنمها المقاومون في المعارك.
أيضًا سلاحهم تحت أرضية زجاجية، تقف عليها أقدام الزائرين. هنا تظهر هزيمة (إسرائيل) التي كان العرب يقولون إنها لا تقهر، موثّقة بشهادات نصية لقادة الاحتلال.
لا شك أن شعور أي سائح يزور المعلم سيكون الانبهار بما سيراه، لكن الفلسطيني على وجه الخصوص سيقدّر قيمة أن ترى الأجيال فعل المقاومة وجهدها على مدار سنوات.
لن تملّ من مليتا. تسمع زائرًا يسأل من بجانبه: هل هذه المرة الأولى لك هنا؟، فيجيب الأخير: لا، إنها الثالثة أو الرابعة. فكيف يأتي الملل في مكان عبّده السيد عباس بروحه، والمقاومون بدمائهم؟.
.........................................................................................................................................
.........................................................................................................................................
...
غزة تحاول
شهدت الأراضي الفلسطينية على مدار أعوام خلت بعد انتفاضة الأقصى الثانية، سلسلة من الاقتحامات والحروب. دارت في تلك الأحداث مواجهات مباشرة بين المقاومة الفلسطينية وجنود الاحتلال الإسرائيلي.
كان المقاومون يعرضون على شاشات التلفاز، بعد انتهاء كل توغل بري، مجموعة من العتاد الإسرائيلي الذي غنموه أو تركه الجنود وهم هاربون، ولكن لم يُسجل بعد أن جُمع جزء من هذا العتاد، وقُدم إلى الجمهور مباشرة بطريقة فنية أو في معارض.
من المحاولات المحدودة، عرض السيارة التي استُهدف فيها الشهيد أحمد الجعبري، وبعض الصواريخ الإسرائيلية، التي لم تنفجر بعد سقوطها، في معبر رفح جنوب قطاع غزة، ليراها الوافدون للتضامن مع غزة. إضافة إلى مجموعة من الصور توثق الحرب الإسرائيلية على القطاع نهاية العام 2012.
محاولة أخرى سجلها الأسرى المحررون في أرض مقر السرايا وسط مدينة غزة، حين استغلوا ما تبقى من أبنية للسجن القديم الذي قصفه الاحتلال أكثر من مرة، فنظموا معرضًا صغيرًا قدموا فيه صورة مقربة عن واقع السجون الإسرائيلية، لاسيما أن الجيل الجديد من الشباب الفلسطينيين في غزة لم يخبر هذه التجربة أو يعيشها عن قرب.
المعرض لم يدم طويلًا، رغم مطالبات بعض المحررين بإنشاء متحف دائم لعرض معاناة الأسرى، من خلال استخدام بعض المقتنيات التي هربوها معهم من السجن، وأخرى فنية تم إنجازها بعد التحرير لإظهار الصورة الحقيقية لما عاشوه على مدار عشرات السنوات.