هذه الأرض على موعد الدم. فلا يأتي يوم دون شهيد. أيام هذا الوطن إما صبح أحمر أو ليل مصبوغ بدم. كانت البداية أن نكتب عن رائد. تأخرنا قليلًا من الوقت فلحقه ساجي. طل الفجر ومعه بزغ شهيد آخر اسمه فداء. دقائق وصوت آتٍ من الجنوب: إسماعيل وشاهر وعبد الشافي. ثلاثتهم شهداء في لحظة واحدة.
موعد الشهيد رائد زعيتر كان على معبر الكرامة. ذلك الاسم الذي لم يبق للفلسطينيين نصيبًا منه، فإنسانيتهم تُهدر على كل حاجز و"محسوم" للجيش الإسرائيلي. هو الجيش الذي يتقن جنوده أسلوب الاستفزاز، ثم يكمل قادته إخراج رواية الحدث على النمط نفسه: الجندي المسلح كان يدافع عن نفسه في وجه المدني الأعزل!.
الحافة التي كان يستقلها الشهيد رائد زعيتر
عمان تضج بالغضب الآن، فالشهيد زعيتر قاضٍ فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية ويعمل في محكمة صلح العاصمة. كان ذاهبًا إلى نابلس في الضفة، لذا كان عليه المرور على "الكرامة" ليتفقد الجند فيها هويته، ثم يقرروا السماح له بالدخول، أو ربما العودة من حيث أتى. ولكن هذه المرة زادوا على ذلك دفعًا وإهانة. جندي زاحم رائد ودفعه بيديه، فانتفض الأخير لكرامته يدافع عن نفسه. تدخل عسكري آخر فدفع برائد إلى الأرض. أيضًا لم يستطع زعيتر(38 عامًا) أن يصمت فنافح بيد الأعزل لتنطلق رصاصة من الجندي لكنها أخطأته. أما الرصاصة الأخرى فجاءت في صدره ليسقط أرضًا، وتلتها ثالثة أجهزت عليه.
جسد الشهيد رائد زعيتر على الأرض
صُدم من كان في الحافلة، وأغمي على بعض النساء وكبار السن. مضت نصف ساعة والدماء تسيل من جسد رائد. مُنع الركاب من إسعافه حتى جاء الإسعاف الإسرائيلي ليحاول إنعاشه، لكن الروح عبرت ومضت، وبقي رائد جسدًا لا يريد العبور كيفما كان.
لم يكتف الإسرائيلي بالقتل، فبدأ تفتيش ركاب الحافلة بطريقة مذلة لساعات، ثم أخذوا إفادة المسافرين عن الحادثة. بعد ذلك خافوا من تفتيش حقيبة رائد ففجروها. وفتتوا معها حقيقة قتل هذا الفلسطيني لتخرج الرواية الإسرائيلية وتقول: كان يحاول سحب سلاح جندي فأرداه الأخير.
وقعت الحادثة على الحدود بين الأردن وفلسطين. هول الحادث شدّ عقول الناس هنا. ليس غريبًا على الإسرائيلي القتل. لكن الإجرام بحق حياة الفلسطينيين إلى هذا الحد لم يعد معقولًا!
فيديو الشهيد رائد: http://www.youtube.com/watch?v=iw22VqY35PQ
وبينما كانت جلسات المواطنين تتحدث عن قضية الصباح، قطع سيل كلامهم خبر آتٍ من قرية "بيتين" شمالي رام الله. شهيد آخر يرتقي بنيران الاحتلال. أيضًا الرواية جاهزة: كان يلقي الحجارة على سيارات المواطنين. ساجي درويش: طالب في كلية الإعلام في جامعة بيرزيت. عمره 18 عامًا. محب للمقاومة في فلسطين ولبنان. كتب على صفحته على الفايسبوك أمنيته في الشهادة، فتحققت بعد 6 أيام.
وقفة قليلة تجعلنا نشعر أننا لم نعط الشهيد حقه في التعريف. نحاول مرة أخرى: هو إنسان، فلسطيني، عربي، ابن أرض لا تزال محتلة. يكفي هذا الإسرائيلي ليجعل من ساجي وغيره هدفًا للقتل. نظرة واحدة على حسابه عبر الفايسبوك تقدم صورة عن أي إنسان كانه ساجي.
https://www.facebook.com/saji.darwish
الشهيد ساجي درويش
أهله قالوا إنه ذهب إلى مزرعة تابعة للعائلة كي يطعم بعض الحيوانات هناك. رفضوا المزاعم الإسرائيلية، وفيها أنه كان يلقي الحجارة. هذا كله ليس مهمًا لدى الإسرائيلي الذي يقدم المبرر، لأنه يعلم تمامًا أنه قوة احتلال تفقد شرعية الوجود.
الضفة استقبلت شهيدها بعد احتجاز جثمانه ساعة لدى الاحتلال. تحدد موعد الدفن في صباح اليوم التالي. يخترق فجور الرواية الإسرائيلية صوت الأم الثكلى تنادي: "وينك يمه يا ساجي".
https://www.youtube.com/watch?v=lelE7Yf2w8A&feature=youtu.be
ويبدو أن دسكرة أخرى من فلسطين كانت على موعد مع همجية المحتل. ففي عتيل لواء طولكرم قضى فداء محيي الدين المجادلة. الشاب العشريني أصيب وصديقًه، بعدما طاردت سيارتهما قوات الاحتلال على حاجز جبارة تحت حجة الاشتباه بها. هكذا أتمّت الضفة مساءً وصباحًا بثلاثة شهداء، في حين أن هناك أرضًا تراقب بغضب ما يحدث في الشق المنتزع من الوطن.
مكان استشهاد فداء: http://www.youtube.com/watch?v=xoCSEsl1CME
من صفحة الشهيد ساجي درويش على الفايسبوك
في مكان مفصول جغرافيًا لكنه شريك في فاتورة الحرية والمقاومة. قطاع غزة. صوب أقصى جنوب الوطن المحتل. توغلت دبابات وجرافات إسرائيلية في مدينة خانيونس لتنفذ عادتها شبه اليومية في تجريف الأراضي وقلع الأشجار.
كان هناك مرابطون يراقبون التوغل. جاء القرار بالتصدي. جرت عملية مناورة والتفاف ثم إطلاق قذائف هاون على القوات المتوغلة، لكن هذا لم يمنع طيران الاستطلاع من كشف أماكن المقاومين. استهدفت تلك الطائرات مجموعة من المقاومين فاستشهد ثلاثة منهم، هم: إسماعيل أبو جودة (23 عامًا)، وشاهر أبو شنب (24 عامًا)، وعبد الشافي معمر (33 عامًا).
الشهيد إسماعيل أبوجودة
سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي نعت الشهداء الثلاثة، وأعلنت في بيان مقتضب أنهم ارتقوا خلال تصديهم لتوغل (إسرائيلي) في المنطقة.
فيديو إطلاق الهاون: http://www.youtube.com/watch?v=5MI78TwbtL8
هكذا شاركت غزة ضفتها الدم مناصفة. اختتم الوطن بستة شهداء يومين من سنوات الاحتلال التي ينتظر انتهاءه شعبٌ محاصر، ولاجئوه في الشتات. هم يعلمون جيدًا أن طريق الاحتلال مخضب بالدم، لكنهم غاضبون لتوالي القتل الإسرائيلي، مع عجز من في الضفة عن الرد، فيعلقون آمالهم على غزة، علّها تعلم العدو بطريقتها أن هناك نفسًا ما زال يقاوم.