ليندا عجمي
بئر العبد، الأخ التوأم لحارة حريك، شريكا الصبر والجهاد والانتصارات منذ البدايات.. مُذ كانا ولا يزالان معقل المقاومة وعاصمةً للإباء والفداء.. شهيرٌ مسجد الإمام الرضا(ع) فيه، قلب الثورة ومصنع الرجال. ذات ظهيرة من العام 1985 صُبغ بأرجوان دم بناته وأبنائه، فكانت مجزرة بئر العبد.. يومها إزداد طهراً، وإزداد صلابة.. وصار أكثر عصياً على الموت.
الثامن من آذار/مارس عام خمسةٍ وثمانين، موعدٌ حدّدته وكالة الإستخبارات الأميركيّة لاغتيال آية الله الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله. الرجل صار يشكّل خطراً على مصالح الإدارة الأميركيّة في المنطقة، من خلال دوره في احتضان المقاومة المتنامية ضدّ العدو الصهيوني، وعليه أن يرحل. الضرر كبير، والمتواطئون كثر، تخطيط أميركيّ وتمويل خليجي وتنفيذ لبناني.. ولكن، يفعل الله ما يريد.
ثمانون شهيداً وأكثر من مئتي جريح
بعدما أنهى السيد ذلك اليوم محاضرته في مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، استوقفته سيدة للسؤال وهو يهم بالمغادرة. حاول تأجيلها لمرةٍ لاحقة، لتعبه وإرهاقه حينها. ألحت عليه بالسؤال، فنزل عند رغبتها.. تأخر موكب السيد عن ميقات عودته إلى منزل. إرتبك القاتل المأجور الذي كان ينتظر. مرت سيارة قرب المنزل، زاد إرتباك القاتل، ثم مرت أخرى. حينها فجر القاتل سيارة "البيك آب" المفخخة بمئة كلغ من مادة الهيكسوجين الحارقة الشديدة الإنفجار (أي ما يعادل 250 كلغ من مادة الـTNT). صارت الأرض جحيماً. ابتلعت النار الناس والسيارات، وَمَا قَتَلُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ..
"لقد كان عمري 11 سنة، كنتُ مع زملاء المدرسة، على مقربةٍ من مكان وقوع الإنفجار. شاءت العناية الإلهية أن لا أصاب حينها، لكنني شاهدت الجرحى والشهداء. لم أكن أدري ما الذي حصل. بعدها تلقفنا الصدمة، شيئاً فشيئاً بدأنا نعي الواقع المجنون، حتى وصلت إلى السيد واطمأننت إلى حاله"، بهذه الكلمات يصف سماحة السيّد جعفر فضل الله، نجل آية الله االسيد محمد حسين فضل الله، لموقع "العهد الاخباري"، ردة فعله الأولى.
السيد جعفر فضل الله
يقول السيد جعفر: "السيد كان مستهدفاً على الدوام، فقد سبقت هذه الحادثة محاولةٌ لاغتياله في منزلنا في الغبيري، وراح ضحيتها مرافقه. من الطبيعي استهدافه فهو كان يمثل رمزية كبرى أزعجت الإدارة الأميركيّة ومن ورائها أدواتها في المنطقة"، ويذكر بأن السيد المقاوم كان واجهة الحركة الإسلامية وطليعة الحالة الإسلامية، فضلاً عن كونه أباً وقائداً للمجاهدين وهادياً لهم وموضع احترامهم وتقديرهم، وهذا ما جعله غصة في فم العدو والاستكبار العالمي وشوكة في خاصرته، وهدفاً لمؤامراتهم.
هزّ التفجير مسجد السيد ومنزله، ولم يهتز موقفه
يتحدث السيد جعفر أن التفجير الإرهابي لم يغير قيد أنملة في قناعات والده، ولم يثنه عن سيرته الأولى، إذ استمر بعمله وجهاده كما اعتاد. ما آلمه وما أهمه هم فقط الناس الأبرياء الذين ظُلموا واستشهدوا بسببه. السيد الراحل نفسه كان قد علّق على المجزرة بأن هناك "شهداء أبرياء، أجنة وأطفالا ونساءً ورجالاً سقطوا في قلب نيران هذه المتفجرة".. هؤلاء الشهداء قطع السيد "عهداً لهم أن نحمي دماءهم.. إن لم نكن نستطيع أن نحمي حياتهم". وأكد أن يظل مع "كل المجاهدين حتى تخرج اسرائيل، لا من لبنان فحسب، بل من المنطقة.. إنهم يخوفوننا بالموت.. ونحن مع شعار أجدادنا "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة".
من أرشيف جريدة العهد (يوم الجمعة في 16 آذار 1985)
أدوات معركتهم: تكفير وإرهاب.. فإلغاء
يجيد الإرهاب نسج تحالفاته، ويبرع الشيطان في جمع جنوده. خبايا المجزرة المروعة راحت تنكشف فصولاً، لم يكن أخطرها ما كشفه مدير تحرير صحيفة الـ"واشنطن بوست" السابق بوب وودورد أن المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليم كايسي، ساعد شخصياً رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان على تنفيذ محاولة اغتيال السيد فضل الله في 8 آذار/مارس 1985، بمساعدة بعض اللبنانيين.
قد لا يستغرب أحدٌ حجم المؤامرة ووزن المتورطين، يدرك السيد جيداً بأن القتل قد يكون ضريبة الموقف. برأي السيد جعفر أن "كل موقع يظهر الفكر الإسلامي العميق ممزوجاً بالإرادة الصلبة والاستقلال الكامل هو هدف للمستكبرين لتطويقه بشتى الوسائل عبر التكفير والإرهاب وصولاً إلى الإلغاء".
من أرشيف جريدة العهد (يوم الجمعة في 16 آذار 1985)
وتعليقاً على مشهد الفرقة والشتات، يرى السيد جعفر أنه "علينا كعرب ومسلمين أن نعلم أن العالم الإسلامي يستطيع أن يكون نقطة إشعاع الى العالم، ونستطيع أن نصنع مساراً جديداً للحضارة التي يمتزج فيها الفكر مع القلب والإرادة والاستقلال عن كل الإرادات"، مشدداً على ضرورة الوحدة والتلاقي وبأننا محكومون باللقاء، لأن كل الارتهان لخطط الاستكبار لن يجلب سوى التمزق والدمار وما علينا الا التوحد فيما بيننا وأخذ العبر من كل التاريخ القريب والبعيد.
لم يفلح الإرهاب سابقاً في تحقيق مبتغاه، وكذا لن يفلح اليوم - في نسخته الجديدة المعدّلة - من اختراق مجتمع المقاومة أو إلحاق الهزيمة فيها، وسيبقى عاجزاً عن تركيعها وكسر إرادتها وتغيير مواقفها، وستظل - كما كانت - صلبةً شامخةً تواجه التحديات وتُفشل المؤمرات.
وفق السيد جعفر: المقاومة هي القاعدة الأساس وورقة من أوراق القوة، ومحاولة مصادرتها تشكل تنازلاً وخيانة. من الممكن البحث في استراتيجية معينة، لكن الاستغناء عن المقاومة سذاجة في وجه عدو متغطرس وعنصري.. لذا على اللبنانيين الوعي والتمسك بالمقاومة التي حررت الأرض والوطن، ولن يرتاح بالنا إلا بعد اجثتات العدو الاسرائيلي من الوجود ودحره عن أراضينا.
بعد مرور أربع سنوات تحل الذكرى هذا العام، وقد غيب الموت السيد جسداً، لكن نهج المقاومة الذي حاولوا اغتيال السيد لدفاعه عنه وسيره فيه، صار أكثر حضوراً وأصلب عوداً. في هذه الذكرى ومع كل ذكرى يجدد بئر العبد عهده ويقطع وعده: أبداً، ستعيش المقاومة، لن يموت السيد.