"لا أريد أن أبلّط الدار! لست للدنيا يا أمي!"
لا تفارقها كل عباراته كلّما صعدت سلّم دار ابنها الشّهيد الذّي عمّر بيته فوق بيتها ليكون دومًا الى جانبها. لكنّ الغياب الآن سيد الموقف. عهدها اليوم ليس مع السّيد علي مرتضى، ابن ال35 ربيعًا، بل مع ذّكرياتٍ مليئةٍ به.
"كان حنونًا، وبارًّا بي، ومتواضعًا، ويحب الناس ويخاف الله كثيرًا في كل تفاصيل حياته".
كلُّ العبارات تبدأ ب "كان". و"كان" تملأ حياة هذه العائلة وعائلات كثيرة .
هي أمٌّ كباقي أمّهات شهداء الدِّفاع المقدِّس. بمعظمهنّ، شبابهنّ لم يبرحوا مقتبل العمر. أحفادهنّ لم يدخلوا المدرسة بعد، كابن السّيد علي، عامان ونصف، ومن دخلها لمّا يتخرّج منها.
أمّا المجاهدون اللذين فرحوا بأبنائهم، متزّوجين أو مخرّجين، فأولئك من ختم الله لهم عمرًا طويلًا في الجهاد، بالشّهادة.
والباقي إمّا شابٌّ ينتظر عروسًا فزفنه الى الحور العين، وإما عريسٌ لم ير ولده بعد.
والسّيّد علي، جمع بين الألمين، ولده الأول بالكاد يتكلم، وولده الثاني ما زال جنينًا في بطن أمه.
كثيرون هم الشّهداء. يغادرون عالمنا فيسكنون قلوبنا، لنبقى مشرّدين في أزقةٍ عبروها، نجمع منها كل ما يوصلنا اليهم!
وكلُّ شهيد منهم يحوي عالمًا خاصًا، وكأنَّه بدرٌ احتلَّ إحدى المجرّات ليقول: "أنا هنا!"، لكنّنا لا نعرف من هو إلا عندما يرحل.
وقصة السّيد علي مميزة.
هو ذهب ولم يعد. ما زال هناك، يحرس هذه المرة غربة سيّدته زينب، بعدما حرس مقامها المقدّس، واكتسب شرف تنظيفه، بل واعتلى القبّة المقدّسة ليدلي بالقسم:"لن تسبي يا زينب مرتين!".
وأمه، لا تعلم بأن ولدها البكر يجاهد في سوريا، هي لا تعلم بأنّه مقاتل أصلًا. كلّما كانت ترى حذاءه متّسخًا، ظنّت بأنه يتجول في الحقول مع أصدقائه. كان يقول بأنّ عمله إداريٌّ فقط. لم يخطر ببالها أنه منّظم ومعدٌّ ومشاركٌ في التنفيذ، فوق الأراضي المقدّسة.
قبل ذهابه أمسك يدها، رفعها نحو السّماء وقال لها:ً "ارفعي يدك يا أمّاه، يا قارئة العزاء، أريد أن أفتخر بك أمام مولاتي زينب".
ولم تعرف هي لماذا انهالت عليه تقبِّل وجهه ورقبته- كانت تخجل من ذلك لأنّه لم يعد طفلًا- ثمّ تضمّه قائلةً: "ما أجملك يا ولدي، ما أبهى طلّتك البهية وما أروع كحل عينيك!".
ذهب السّيد علي إلى عمله نهار الإثنين، على أن يعود بعد يومين، كما أخبرها، طالبًا منها أن تجمع له العائلة ليأنسوا بعض الوقت.
لكنّه ما عاد بعد يومين، ولا يوم الخميس، ووقتما شعرت بأنّ قلبها أصبح فارغًا، كأنها شعرت بأن حبيبها أصابته النّيران وهو يحاول إنقاذ زميل جهاده الشهيد خوفًا من أن يقع بين أيدي التكفيريين.
واجتمع نهار الجمعة في بيتها الأحباب، أصدقاء السّيد، وأولاد عمّه، دون أن تعرف سبب جمعتهم. وبعدما أعدّت لهم الترويقة وصنعت المناقيش على الصّاج، وقف أحدهم لثقته بصبرها قائلًا: " غدا سنزف السّيد علي يا أمّهُ، أيّتها الصابرة زغردي".
نظرت اليه، فاجأها بخبر لم تتوقعه، سألته:" استشهد علي؟".
- نعم!
أراد أن يكمل ما بدأه، ولكنه حار كيف يخبرها بوصيّة الشهيد التي يطلب فيها دفنه الى جوار عمته زينب، فقال لها: "استشهد السّيد، وسنحضره غدًا".
فرفعت كفّيها الى السّماء قائلة :" يا رب صبّرني"، ثم نظرت إلى الناعي لتفاجئه:" ولماذا تحضرونه! نحن سنذهب لنودّعه. إبني علي سيدفن قرب عمّته زينب"!.
استغرب الجميع كيف تنطق أمٌّ بهذه العبارات، لكنّها أجابتهم:"أفنيت عمري في جمع عيدان السعادة لأزّين بها حياة حبيبي، فهل أحرمه الآن من سعادته الأبدية! لا لست أنانيةً".
وذهبوا!
مشوار الوداع لم يكن سهلًا. تعلم بأنّها لن تراه، إلا في نعشٍ لئيم.
تعلم بأنها لن تكون لوحدها معه، تعلم بأنّه الآن ما عاد ابنها لوحدها، لأنّه صار حبيب أمّةٍ بأكملها!
تراه أحسّ بقرب موعد رحيله عندما عانقها قبل ذهابه؟!
ليتها عرفت أنّ وداعها ذاك سيكون الأخير، حتى تقول له: "لم أكتف منك يا حبيبي، يا من ربّيته برمش العيون".
لكن لا، فالوداع سيكون قاسيًا، أقسى من سنين الغياب بأكملها.
وصلت أم الشهيد الى الشّام بعد رحلة من الألم والإنكسار، وهناك كانت الفاجعة. "لا لأنّ ولدي استشهد، فالشهادة فخر ونعمة أنعم الله بها عليّ، إلا أن ضريح السيدة زينب الخالي أنساني كل أحزاني. إي والله يا زينب "لفى عاشور"... أين زوّارك يا زينب! أين أحبابك! أين الدار النابضة عشقًا! ما لي لا أرى سوى وحدة تكفّن غربتك يا عقيلة وتزيدها مآسي!".
نسيَت شهادة ابنها البكر عندما وطأت قدماها أرض الحرم، بل بدأت تلوم نفسها قائلةً: "أين أبناؤنا ليدافعوا عنك يا زينب! أين شبابنا! ألدي 4 شباب وأنت وحيدة! واخجلاه منك يا زينب". لكنها ما لبثت أن تذكرّت بأنّ السّيد علي قد صلّى صلاة جهاده الأخيرة هنا، بعدما شارك في تنظيف الحرم وإلقاء القسم بأنّ زينب لن تسبى مرتين.
هدأ روعها قليلًا، ثم دخلت المقام الشريف ونداء "الله أكبر" يعم أرجاءه. وإذا بالنعش المبارك محمولٌ على الأكتاف، وكأنّ السّيد علي جاء ليسلّم على أمه!
"ما هذا يا علي! أيُّ اختبار ذاك يا حبيبي! أحضروك وقت الصلاة! لحظات ينادي بها الرحمن عباده، هل أتوّجه اليك! ما أشوقني الى وضع قبلة فوق نعشك يا ولدي! اشتقت اليك يا حبيبي! أي عزٍّ هذا يا علي! أي فخرٍ بأن جعلتني أواسي بك مولاتي! لكنّها الصلاة يا علي! الصلاة!".
ما هي إلا لحظات حتى كان جوابها، ليس أقلّ نجاحًا من جواب ابنها، عندما نادته عمّته زينب لنصرتها، حملت سجدة الصلاة والسّبحة، وتوجّهت الى مكان خالٍ لتصلّي.
"أحسنت يا أمّاه، أحسنت يا طاهرة، سأنام الآن قرير العين قرب عمّتي، فلن تخسر المعركة أمّة توقِّر الصلاة، إلى اللقاء ي أمي".