يرضخ الاعلام الاسرائيلي منذ فترة لقرار عسكري يمنعه من التطرّق لخطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. آليةٌ تفترض تجاهل مواقفه للتعمية على تأثيراتها المباشرة داخل الكيان. لكنّ المواكبين لردود الفعل الصهيونية على كلام السيد نصر الله على مدى سنوات وخصوصاً بعد تحرير الجنوب عام 2000، يدركون تماماً أن السكوت المستجدّ يعني شيئاً واحداً: خوفٌ وخشية من صدقيّة السيد التي يعترف بها المستوطنون أكثر من قيادات الجيش الصهيوني وزعماء العدو القدامى والحاليين.
أثناء وبعد عدوان تموز 2006، عبّرت القنوات الاسرائيلية عن ثقتها بكلّ ما يعلنه السيد نصر الله.. الإقرار الصهيوني لم ينحصر بالصحافة والإعلام، بل إن المراكز المتخصصة بالشؤون العسكرية وأبحاثها ومعاهد "مكافحة الارهاب" في الكيان تحدّثت عن تفوّق وبلاغة يتمتع بهما "زعيم" حزب الله في كلّ إطلالاته، وراحت تحلّل في آليات الحرب النفسية التي يشنّها ضدّهم. هذا الإذعان بالضعف أمام حزب الله، لم يرُق أبداً للقيادات الصهيونية، فبدأت بالتنقيب عن طرقٍ تخفي فيها وَهنَها الواضح، وخلُصت الى أن تعطيل أي محاولة لتناول مواقف السيد هي الحلّ الأمثل، وأوعزت الى محطاتها المتلفزة بإيقاف تفسير دلالات خطاباته.
إطباق الحكومة والمسؤولين العسكريين في "اسرائيل" على صِحافتهم لم ينجح.. إعلام "تل أبيب" بمختلف انتماءاته الحزبية، تفاعل مع رسائل الأمين العام لحزب الله بقدرٍ يحمل الكثير من الاشارات، فالصمت الاسرائيلي أكثر دوياً من الأحاديث والبيانات الاعلامية..
يقول أحد المتخصّصين في الشؤون العبرية إن "سكوت "إسرائيل" حيال تصريحات الأمين العام لحزب الله يشكّل سابقة تتمثّل بالخروج عن السلوك النمطي المعهود لـ"تل أبيب"".
وبرأيه، هذا المنع الذي يمارس في التعليقات الإعلامية والردود السياسية، يقود إلى استنتاجٍ شبه مؤكد، مفاده أن اللجوء إلى عدم التعليق هو قرار ليس وليد صدفةٍ، وعليه يمكن القول إن الصمت الإسرائيلي هو في الواقع ليس سوى تعبيرٍ صريحٍ عن موقف، ولاسيّما أن المعنيين في "تل أبيب" يحتارون في طرق التعليق، فإن استخفّوا يدركون أنّ أحداً لن يعوّل على موقفهم في ظل ثابتة صدقيّةِ السيد نصر الله التي يعترفون بها قبل غيرهم، أمّا إن أقرّوا بجديّة هذه التهديدات، فيعلمون أنهم يسهمون من حيث لا يريدون، في تزخيم مفاعيل الحرب النفسية التي يتوخّاها الأمين العام لحزب الله بتصريحاته ضد جنودهم.
المتخصّص بالشؤون العبرية يخلص هنا الى أن اختيار الإسرائيليّين اعتماد سياسة الإعراض أو التجاهل في التعامل مع خطابات السيد نصر اللّه، يشير حكماً إلى مدى التأثير الذي باتت تتركه في ظلّ الإقرار بالعجز عن مجاراتها، وهو تأثير على ما يبدو، ضاقت قدرة التحمّل الإسرائيلية على استيعابه فاستنسبت التعامي عنه.
لا تنفصل هذه القراءة عن تقييم مدير مكتب قناة "الميادين" في فلسطين المحتلة ناصر اللحام، الذي يوضح أن "اسرائيل" وبأوامر من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قرّرت عدم التطرق الى الملفّ اللبناني، والإبقاء على دور المتفرّج والمراقب، وهذا ما عكسته تصريحات القادة العسكريين في زياراتهم الى منطقة الجولان المحتلّ والحدود الشمالية.
يشرح اللحام أن "اسرائيل" تدرجت في تعاطيها مع خطابات السيد نصر الله من خلال ثلاث مستويات : أولاً الترجمة المباشرة للكلمات وخصوصاً خلال حرب 2006 حتى 2009، ثانياً إخضاع الخطابات للتحرير بناء على قرار عسكري داخلي أي اعتماد الرقابة العسكرية وهذا سارٍ الى اليوم، ثالثاً إهمال مواقف السيد نصر الله.
بحكم متابعته لسياسات الكيان، يرى اللحام أن الطريقة الأخيرة لا يعتبرها المسؤولون في الجبهة الداخلية منطقية، لأن معظم الاسرائيليين يستمعون الى الأمين العام لحزب الله، وهذا يضع القيادة العسكرية أمام واقع عجزها عن التحكم بمتابعة المستوطنين لمواقف السيد نصر الله .
بحسب اللحام، نتنياهو نجح في خداع بعض الاسرائيليين من خلال تبريد الملفات الساخنة بشكل بهلواني وخصوصاً فيما يتعلّق بالتهديدات التي يطلقها السيد نصر الله من لبنان، وبناء عليه انتخبوه للمرة الثانية، وهو ما جعل بعض المحلّلين يصفونه بأنه كذاب يبيع الوهم .
اللحام يلفت الى أن المؤسسات الأكاديمية في "اسرائيل" تواظب على رصد خطابات السيد نصر الله رغم التعميم العسكري الصادر، كمعهد "وايزمان" للتعليم العالي، والجامعة العبرية، ومركز الأبحاث التابع لجامعة "تل أبيب"، الذي يعتبر من أهمّ وأخطر مزوّد للاستخبارات العسكرية بالمعلومات، وشعبة الاستخبارات العسكرية المعروفة باسم "أمان" التابعة لهيئة أركان الجيش الصهيوني، ووحدة المراقبة التكنولوجية في "اسرائيل" المستحدثة منذ ثلاث سنوات، وإذاعة الجيش فضلاً عن الصحف والقنوات.
الاعلام الاسرائيلي يعمد الى السخرية من إطلالات السيد نصر الله الشخصية بناء على توجيهات القيادة العسكرية، بموازاة توزيعها لبيانات تشويه لصوته عبر رسومات كاريكاتورية، وفق ما يقول اللحام، وهذه المنهجية أثبتت عُقمها لأن الاساءة الى حزب الله وأمينه العام يصبّ في صالح الاستهزاء بـ"تل أبيب"، ونتيجة التجريح بالمقاومة اللبنانية كانت عكسية فأضرّت بـ"اسرائيل".
يرتبط هذا التقييم بمضمون جاء في مواقف وصحف وقنوات اسرائيلية خلال العام 2013 عقب صدور التعميم العسكري في "تل أبيب"، لوحظ فيه قرار بإفساد صورة السيد نصر الله بدل التعبير عن الثقة بخطاباته.. في شباط 2013، نقلت القناة الثانية عن رئيس الكيان شمعون بيريس قوله إن "(السيد) نصر الله، الذي يتستر بعباءة دينية، يدفع لبنان إلى حرب دموية بالرغم من أنه ليس له عدو. حان الوقت لتسمية حزب الله بإسمه منظمة إرهابية مجرمة.. نصر الله بأفعاله وجرائمه يلوث إسم لبنان كله".
وفي آذار، اختلقت صحيفة "معاريف" خبر تدهور صحة السيد نصر الله وأنه يعاني من مرض عضال وتمّ نقله إلى مستشفى في طهران لتلقّي العلاج. وفي أيار، قال جاكي حوغي مراسل الشؤون العربية في إذاعة الجيش: "إنها لحظة تاريخية وأيام مصيرية بالنسبة لمستقبل لبنان، زعيم حزب الله اختار استخدام كلمات ثقيلة، ولم يخطئ، النظام في سوريا يصارع من أجل البقاء، و(السيد) نصر الله مستمرّ بالوقوف الى جانبه، وليس هذا فقط بل وعد بالنصر"، غير أنه وصف أسلوبه بـ"الجذاب".
وفي مقال نشرته "يديعوت أحرنوت"، كتب ألكس فيشمان "رغم مَيْلنا إلى الاستخفاف بالقادة العرب، يوجد في الشرق الأوسط أيضا استثنائيون. عندما يُهدّد (السيد) نصر الله يجدر بنا أن نصغي اليه. من بين القادة الشرق أوسطيين، يُعتبر أمين عام حزب الله رجل يفي بوعوده و ينفذ تهديداته. هو لم ينجح دائما في تحقيقها، لكنّه حاول. هنالك تطابق عالي بين ما يقوله وبين ما يفعله". ويضيف عندما يُطلق الأسد و(السيد) نصر الله التهديد ذاته تحديدا، يجب التعامل معه بجديّة.
العقيد في الإحتياط رونن كوهين، الذي أجرى بحثا حول فن الخطابة لدى (السيد) نصر الله في حرب لبنان الثانيّة، كشف أنّ العديد من خطبه مُخصصّة للدعاية الإعلاميّة، للحرب النفسيّة ولتحديد استراتيجيا. مع ذلك، تحققّت في كثير من الحالات أجزاء من خطبه المُتعلقة بنشاطات عملانية. التهديدات التي أطلقها في حرب لبنان تحققّت خلال 24 ساعة. هدّد بتشغيل سلاح سرّي_ وأطلق طائرات الإستطلاع غير المأهولة".
من جهته، يحاول قائد المنطقة الجنوبية اللواء سامي تورجمان التغطية على هذا الرأي، من خلال تهديد السيد نصر الله وكل قيادة حزب الله بأنها "عرضة للتصفية".
وهذا موقع "والا" الإخباري يحذو حذو تورجمان، فيرى أن "نصر الله سيدفع ثمن تورطه في سوريا"، لكن الموقع نفسه يستدرك أن "أمين عام حزب الله،كان معروفا لسنوات، حتى في الجانب الإسرائيلي، كإنسان صادق. ينطق بالحقيقة. ميزة لم يتصف بها زعماء في الشرق الأوسط، إسرائيليون أو عرب. نصر الله اعتُبر استثنائياً بهذا المعنى".
وفي نهاية العام 2013، اختارت "يديعوت" التركيز على إجراءات الحماية الخاصة بالسيد نصر الله مصرّة على كلمة خروجه من مخبئه، وقلّة ظهوره الشخصي لإلهاء الجمهور الاسرائيلي عن رسائل حزب الله السياسية وتأثيراتها على الأوساط السياسية في "اسرائيل".
عندما تأمر "اسرائيل" بتجاهل مواقف السيد نصر الله، ففي ذلك رسالة وليس تهميشاً.. قلقٌ صهيونيّ بادٍ على سياسة الكيان من تداعيات خطاباته على جمهور اسرائيلي يثق بعدوّه وليس بزعمائه.. وعندما تقرّر "تل أبيب" تشويه صورة الأمين العام لحزب الله وتناولها في إطار السخرية فقط، فهذا استغباء مفضوح وإخفاق جليّ. قد يكون التقليد الذي يتّبعه قائد المنطقة الشمالية اللواء "يائير غولان" من خلال وضعه صور السيد نصر الله والرئيسين السوري بشار الأسد والايراني حسن روحاني على مكتبه الخاص خيرُ دليل على مدى تأثيرهم في لعبة الحرب النفسية.. الموقف الاسرائيلي الحقيقي هنا لا يُعبَّر عنه في الدوائر الرسمية علانية، بل يختصر بجملة قالها مستوطن مرّةً في مقابلة مع قناة عبرية "إذا قال نصر الله إن علينا النزول إلى الملاجئ، فهذا يعني أن علينا النزول إلى الملاجئ"..