وصلت متأخرة هذه المرة، وفي يدي كف ولدي. كان الجميع هنا، يكدّسون في الدرب حكايا عن شجاعته، وبطولته التي تناقلتها الأنباء عن إقدامه على عملية استشهادية ، أنباء لم تلبث أن نفاها المعنيون، إلا أن المعنيين بحبه ما زالوا يعظمون استشهاده بقدر إحساسهم بالفخر به. ليس لأن الشهادة وحدها لا تكفيهم مجدًا، ولكنهم يبحثون عن تضحيات بلون أكثر انتشارًا في أرض المعركة. أما هن فهناك تكتنفن سلال الورد والحلوى، ويشح بريق الدمع في أعينهن مع تباطؤ الوصول. كيف لكل هذا الجمع، الذي ما اجتمع ندرة منه في بقعة يومًا إلا وضجت المسامع بهم، أن يتقنوا هذا الصمت! ربما لأن المتحدث اليوم أنت. هو الحضور عربة عرسٍ شقت هذه الجموع على " مطل " البلدة، وكأنها أذنت لهذه العبرات المتحجرة باستقبال الدرب أمامها، فاليوم ذكرى المولد النبوي الشريف ، موعد عرس صلاح* وخطيبته ريم، لكنه اختار أسلوبًا آخر في أن يفرح، لا يحتمله إلا من كان مثله.
لا تحدثهم يا صلاح ، فجميعهم ينصتون لأسرار الشهادة، تهمسها في نفوسهم فردًا فردًا ، يتلمسون إثرها الرؤوس والقلوب بأنهم ما يزالون على قيد أمان، ببركة دماءٍ لا تنضب في صدور الشرفاء. هنا أشد على كف ولدي، أقربه إلى قلبي أكثر، فيومًا قد يكون شهيدًا ولا يتسنى لي أن أخبره كم كنت أحبه، وكذا أمهات الشهداء. " أول مرة راح فيها بكيت، قلي هو : بس بتقولي لبيك يا حسين، ويا ليتنا كنا معك، ولما بصير وقت التلبية بتبكي؟ من يومها صرت أقول له: الله يكون معك، من وقتها عرفت أنه شهيد". أم صلاح، قالتها أمامنا نحن بنات بلدتها. جدته تُضيف: " هم أولاد عزرائيل يكونون محبوبين وبارزين هكذا، كأن الدنيا أضيق من مشيتهم". الجدة تدمع عيناها وتضيق حنجرتها في بث وصفه ، لكن نعم ، هم أبناء الرحيل وحدهم ، يقفون لتلقف القطارات الماضية إلى إشراقات غدهم ، والماكثون هنا قاعدون، أو على أهبة انتظار رحلة مقبلة .
(عن موقع يا صور)
قضى صلاح مراحل اشتداد قلبه في " الشهابية "، القرية التي نزح منها أهله بحثًا عن معيشتهم وصروح تعليم أفضل لأبنائهم، حالهم كحال لبنانيين كُثر، يقضمون المسافات نحو ضجيج المدينة، ويباس الزرع في مخيلتهم، فلا مكان للشعوب في تغالب الساسة على الوطن. وحدهم الشرفاء أتقنوا فن العطاء، كل العطاء، فكيف لو كان عطاءً وعشقًا!
البيدر يعرف صلاح تمامًا ، ضحكته ومزاحه ، حتى خجله في انتظار حبيبته يعرفه أهل البيدر. ريما كانت مراحل عشقه الثاني ومقاومته الثانية ، خلال ثماني سنوات قضاها بين عشقين، المقاومة وريم. لن يحدثك أحد عن صلاح إلا ويذكر لازمتين له: نعم المقاوم ونعم العاشق. " لم يكُن يحب أن أذكر شيئًا من فضائله أمام أحد، ويقاطعني : "أنت لأنك أمي بتحبيني وبتشوفيني هيك" تقول أمه وتعقب على عبارته بالقول: " الآن سأتحدث دون أن يخجل أو يمنعن.، اليوم أتعرف عليه من أصدقائه هناك في المعركة، يحدثونني عن شجاعته، عن أخوته، عن صفات هم يرونها فيه ميزات، وأرى إليها "صلاح".
(عن مجموعة الوادي الإعلامية)
صلاح، ذاك الشاب، يخبر عنه أصدقاؤه أنه لم يقع عليه موت، بل وقع هو عليه، كان وقبيل رحلته الجهادية الأخيرة، قد حدد موعد زفافه مع ذكرى المولد النبوي الشريف، ذهب، وفي سجل دكان والده حسابٌ لن يسدده صلاح، جمعية اشتركت فيها والدته لتدفع أقساط أثاث منزله. تقول أم صلاح: "كنت أرغب في تزويجه بأسرع وقت، اشتركت في بجمعيات وصرت أجهز له بيته، لأنه أحب خطيبته ثماني سنوات، حتى تسجلت في الجماعة فخطبناها له. كنت أحب أن أتوج هذا الحب المثالي، وأتمم فرحة عريسين بالزواج. كان موعدنا ذكرى المولد النبوي ، نفس اليوم الذي واريناه فيه". ذاك يوم كان بعيدًا عن يوم استشهاده. كان جثمانه ما يزال متواريًا قبل أن يعود تتقدمه الحسرة، يتشاركها الجميع مع أهله. اليوم موعد زفاف اختاره هو ليكون بهيًا.
وحدها شهادته أمسكت القلوب أن تنفطر، فكل مشاعر الحزن والألم لا ترقى إلى اعتزاز بشهيد . تتابع والدته:" اليوم لا أعرف سر هذا الفخر الذي أشعر به مع شهادة صلاح، يجعلني أخجل من حزني عليه، سأفتقده ما حييت وأبكيه طويلًا لأنه من قلبي، ولكن كلي يقين بأنه سعيد. رفع رأسنا بتضحيته الكبيرة. هذا ليس كلامي وحدي، فقد زرت والدة شهيد صديق ابني صلاح، كانت تضع صور لولدها قبل استشهاده وتقول: أحب أن أرى هزيمة أعدائه في عينيه حتى قبيل استشهاده. أولادنا توجونا بعزة لا نُهزم معها أبدًا". صلاح اقتحم الأعداء على نية نصر، فكان فارسًا يليق به النصر ويليق بالقضية التي حملها وضحى من أجلها.
*الشهيد صلاح الدين يوسف: من بلدة الشهابية – قضاء صور – استشهد في الحرب ضد التكفيريين.