مصطفى خازم
على غير العادة، التقيت به باكراً على بوابة العمارة التي يقبع في أحد طوابقها مكتب المؤسسة التي أعمل فيها.
اغرورقت عيناه بالدموع.. وبصوت مخنوق قال: "استشهد الحاج.." وسقط أرضاً.
ركعت إلى جانبه محاولاً التقاطه، والتقاط انفاسه التي اختنقت..
يومها ولأول مرة لم نهمس باسمه، بل ولم نستعمل اسمه الجهادي.. يومها فقط وبصريح الكلام قال: "راح الحاج عماد..".
أصابتني رجفة تعودتها في ظروف كهذه، لكني تمالكت نفسي وحضنته فهو ما تعود بعد على فقد الأحبة.. وهو الذي يعرف الحاج من نعومة اظافره فقد تعهده الاخير مودعاً بين يديه حكايا وحكايا.
رفعته وقلت له: "هنيئاً له.. من تحقق "أُمْنِيَّةُ شائِقٍ يَتَمَنَّى".
يومها أيضاً.. التقيت بزميل آخر فحاول ان يخفف من وقع الخبر.. فأسررت له أني أعرف القصة فلا داعي للمواربة.
لكن لم أختبر لحظة الفراق الا ساعة دخلت إلى مكتبي وجلست وحيداً، وبدأت صور العمر تمر امامي من مخيم التدريب العسكري لفتح أمام بيتنا في مخيم برج البراجنة، وصولاً إلى توزيع الصورة الرائعة للإمام الخميني(قده) وهو يرفع الراية على الكرة الأرضية.. والشهيد محمد المقداد ودفتر التبرعات لدعم المقاومة في الجنوب والبقاع الغربي، وسنتر الريفييرا.. والاجتياح الاسرائيلي لبيروت والمخبز في أسفل البناية حيث كنا نقطن وزيارة أبو عمار ومغادرته بطريقة أمنية أدهشت كل الواقفين في "الساقية".. ولاحقاً دخول الجندي الصهيوني إلى مكتبة والدي محاولاً شراء آلة تصوير بـ"الشيكل"، يومها رفض والدي التعامل معه، ولم أفهم لمَ قال له: "إذهب إلى بعبدا هناك يبيعونك مقابل الشيكل!".
وكيف اوقفني أحدهم وسألني عن شعار حركة الناصريين المستقلين ـ المرابطون وكان عبارة عن بندقية معتقداً انه إشارة إلى مدخل مستودع سلاح.. ، ومن ثم فيلم مجزرة صبرا وشاتيلا والشريط طويلٌ وطويل..
تذكرت صورة العميل أحمد الحلاق وكيف تم استدرجه إلى بيروت في عملية فائقة الدقة والتعقيد حيث نال ما يستحق من عقاب.. وتذكرت أيضاً أن العديد من قادة حركة المقاومة الفلسطينية ـ فتح تم اغتيالهم وهم في أسرتهم أو في بيوتهم.. وغيرهم في غير حركة كذلك.
"الحاج" وحده.. لم يغادر الا من حيث بؤرة التركيز، ونقطة العمليات، ومحور المقاومة..
تذكرت أيضاً يوم طُبعت تلك الصورة الشهيرة له ذات النظرات التي ترمق مرور المحمولات، كيف لم يبق الا من تذكر ان له معه حادثة او حديث..
تذكرت الوقفة على طرف شرفة ترمق البحر بنظرة.. أسقطت ساعر في بحر بيروت
تذكرت الطلة من خلة وردة والميركافا التي احترقت في سهل الخيام..
وشريط الذكريات طويل..
بعضها دخل في مرحلة نوم سريري، لكن متفجرة بئر العبد هي الاكثر حضوراً.. ثم اغتيال ياسر عرفات في مبنى المقاطعة.. لا اعرف سر الربط الدائم بينك وبين فلسطين في كل مراحل العمر.
سلامٌ عليك في جنانك، في عليائك.. ولفلسطين راية أنت حاملها سترفرف ولو بعد حين.