صداقتي لأحد مجاهدي المقاومة الإسلامية جعلتني ألتقي في العام 1996، ربما في أيلول منه، باستشهادي وشهيدين. يومها قصدني الصديق ليصطحبني، أنا حبيس المنزل، إلى منطقة بحرية عند السعديات قريبة من المكان الذي يجري فيه الجيش اللبناني رماياته الرشاشة. وقد كانت هذه المنطقة، بالإضافة إلى منطقة ملتقى النهرين، المتنفسين المائيبن الوحيدين ربما، للجنوبيين أبناء القرى الحدودية زمن الاحتلال.
الاستشهادي عمار حمود
ركبت مع صديقي وطاف بي في شوارع الضاحية، يجمع باقي أعضاء الرحلة، الذين لم أعرف منهم سوى أخيه. عرّفني إليهم، وعرّفهم إليّ واحدًا واحدًا. كانوا متفاوتي الأعمار، وكنت الأكبر بينهم. وكانوا قد أحضروا ملابسهم الخاصة بالسباحة، بالإضافة إلى بعض المتاع الذي يحتاجون إليه، كالنظارات وغيرها، بينما لم أجلب أنا سوى "قامتي والسلامة"، كما يُقال، فأنا لا أعرف السباحة، وفي شبر من الماء أغرق!
الشهيد محمد حمود
حين وصلنا إلى المكان، ارتدى عمار حمود(1) ثياب البحر، وألقى جسده في الماء مبتعدًا عنا، ثم تبعه شقيقه محمد (2) . تفرّق الرفاق في الماء، بينما جلست وصديقي الذي خجل من أن يعانق المياه دون أن يحدثني قليلًا. لفت نظري موسى أحمد قاروط (3). كان سبّاحًا ماهرًا. وكنت ألاحظ كلما خرج من الماء آثار جروح في قدميه. قال صديقي: سأحدثك بقصته، لكن لا تخبره بأنني أخبرتك. قلت: لا عليك، هات القصة. قال: منذ فترة كان ميرزا(وهو اسمه الجهادي) ينفذ، برفقة مجاهد آخر، عملية داخل الشريط الحدودي المحتل. بعد العملية قصف العدو الإسرائيلي المنطقة، فاستشهد المقاوم رفيق ميرزا. حاول هذا الأخير سحبه مرات عدة، وفي كل مرة كان يخيب مسعاه بسبب شدة القصف.
الشهيد موسى قاروط(ميرزا)
تراجع ميرزا إلى الخلف، جلس مستندًا إلى جذع شجرة، لكنّ عودًا من أعوادها نكزه. حرّكه ميرزا قليلًا فعاد العود ونكزه. مرة، مرتين، ثلاث مرات دفعت ميرزا إلى الابتعاد عن الشجرة. لحظات قليلة، سقطت قذيفة حيثما كان يجلس. كانت الجراح والعطش والتعب قد نالت من ميرزا. أغمض عينيه في مكانه. لم يدرِ كم مر من الوقت، قبل أن يفتحهما ليرى نفسه بين رفاق له يسعفونه في إحدى القرى المحررة. حين وصل صديقي إلى هنا في رواية قصته، كان ميرزا قد خرج من الماء. توجه نحونا مبتسمًا سعيدًا بسباحته، نظرت إلى ركبتيه، ثم إلى عينيه، كان في لساني الكثير ﻷقوله له، لكنني بقيت صامتًا وفاءً بما تعهدت به لصديقي. حوّلت وجهي نحو البحر، كان عمار ما يزال في الماء يتنافس وأخاه في السباحة. (1) الاستشهادي عمار حمود: من دبين (1979 - 1999): نفّذ عملية استشهادية بتاريخ 30/12/1999 استهدفت قافلة عسكرية إسرائيلية عند مثلث القليعة – الدمشقية – مرجعيون، ما أدى إلى تدميرها وسقوط من فيها بين قتيل وجريح. (2) الشهيد محمد حمود: من دبين (1975 - 1998): استشهد في هجوم للمقاومين على ثكنة الريحان. (3) الشهيد موسى أحمد قاروط (ميرزا): من ميس الجبل (1973 - 1999): استشهد في مواجهات مع العدو الإسرائيل قرب قرية "رب ثلاثين".