انطلاقًا من العام 1993، توالت العمليات الاستشهادية في مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة. أصبح ركوب الحافلات وارتياد المطاعم والأماكن العامة "خطرًا داهمًا" قد يكلف الصهاينة حياتهم. لقد أصبح اسم عياش على كل لسان. جعل النوم محرمًا على عيون المستوطنين والمسؤولين الصهاينة على السواء، وسط استمرار سقوط القتلى والجرحى في العمليات الاستشهادية التي خطط لها عياش وأعد متفجراتها وأحزمتها الناسفة بنفسه، حتى في الأماكن التي كان يعتقد الصهاينة بأنها "آمنة ويستحيل الوصول إليها".
أضحى 80% من سكان كيان الاحتلال يخافون استخدام المواصلات العامة، واشتكى أكثر من عشرين ألفًا آخرين من أمراض نفسية نتجت عن عمليات عياش التفجيرية. لقد تضخم ظل "شبح الرعب" حتى غطى (إسرائيل) بأكملها.
وسط هذا كله، انخرط الآلاف من العناصر العسكرية والأمنية الإسرائيلية في البحث عن عياش، في كل شبر من الضفة وغزة: حملات دهم مستمرة، مواصلة تسخير العملاء للبحث عن أي معلومة يمكن أن تؤدي إلى قتل عياش أو القبض عليه، مع وجود صورة له في جيب كل منهم، لكنه في كل مرة كان يتسرب من بين أصابعهم.
لقد كان عياش ذكيًا وحريصًا للغاية، ومن طراز خاص قد لا يتكرر أبدًا: فرباطة جأشه لا مثيل لها، كما أجاد استخدام التنكر، حتى انه تنكر مرارًا بملابس المستوطنين الصهاينة، مستخدمًا مركبات تحمل لوحات أرقام (إسرائيلية). وقد أجاد كل تلك المهارات بنفسه، دون أي تدريب خاص من أي نوع!
أصبح عياش يمثل للإسرائيليين "رعبًا حقيقيًا"، وصورة "للعدو الأسطورة"، ففي أحد البرامج التلفزيونية (الإسرائيلية) عنه، قال مقدم البرنامج: "أخشى أن يفجر "المهندس" (وهو اللقب الذي اشتهر به عياش) هذا الأستوديو أمام عيون المشاهدين!".
ولم تكن تصريحات المسؤولين (الإسرائيليين) بعيدة عن هذا النطاق، فوزير الأمن الداخلي الأسبق، موشيه شاحل، صرح في ذلك الوقت: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة، فدولة الاحتلال بكل أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاً لتهديداته"، فيما قال رئيس أركان جيش الاحتلال وقتها، الجنرال أمنون شاحاك: "دولة الاحتلال ستواجه تهديدًا إستراتيجيًا على وجودها إذا استمر ظهور أناس على شاكلة "المهندس (عياش)".
كذلك اعترف نائب رئيس المخابرات سابقًا، جدعون عزرا بالقول: "احتراف المهندس تجلى في خبرته وقدرته على إعداد عبوات ناسفة من لا شيء"، بل إن رئيس الوزراء (الإسرائيلي) آنذاك، إسحق رابين نفسه قد قال ذات مرة: " أخشى أن يكون عياش جالسا بيننا الآن في الكنيست..! ".
على ذلك كان يتميز بنوع خاص من الزهد، فهو كان يرفض استلام أي مبلغ من الحركة للإنفاق على أسرته، لأن ما يفعله "ينبغي أن يكون خالصًا لله وحده"، ولأن ذويه يستطيعون الإنفاق على عائلته (تزوج عياش العام 1994، خلال مطاردته، ورزق بطفلين: البكر "البراء"، والآخر، يحيى، وُلد قبيل استشهاده بقليل) ،على الرغم من أن أسرته ليست ميسورة الحال ماليًا.
يحيى.. إلى اللقاء
بدأت تضيق الحلقة على عياش في الضفة الغربية، فقرر الانتقال إلى قطاع غزة في رحلة محفوفة بالمخاطر، واستطاع أخيرًا الوصول إلى هناك بما يشبه المعجزة، على الرغم من كل الحواجز العسكرية والاحتياطات الأمنية لقوات الاحتلال.
من هناك، كان من الممكن أن يستمر عياش في تنفيذ المزيد من العمليات، لولا خطأ قاتل: لقد كانت نقطة ضعف أي مناضل مطارد هي أسرته، فقد كان عياش على تواصل دائم مع والديه وزوجته للاطمئنان عليهم.
تمكن جهاز الأمن الداخلي (الإسرائيلي)، المعروف باسم "الشاباك"، من إيصال هاتف محمول له، عبر أحد أقرباء أفراد مجموعته العسكرية في قطاع غزة، وتم تفجير الهاتف الذي كان ملغومًا بخمسين غرامًا من المتفجرات، في السادس من كانون الثاني/يناير العام 1996، لتخسر المقاومة الفلسطينية أحد أخطر وأهم قادتها في تلك الحقبة، وليودعه مئة ألف فلسطيني في قطاع غزة، في جنازة تاريخية لم يسبق لها مثيل.
لكن القصة لم تنته بعد: لقد ظن الاحتلال أنه قضى على عياش، دون أن يدرك أن خطورة القائد الحقيقي ليست في قدراته الفردية، بل في قدرته على صناعة "قادة آخرين" ليواصلوا دربه. فخلال مطاردته نقل التجربة إلى آخرين، حتى وصل إلى مرحلة الرضا عن ذلك قبل وقت قصير من استشهاده. قال لرفاقه عقب اشتداد حملة استهدافه واستشهاد عدد من المقربين منه: "لا تنزعجوا. لستُ وحدي "مهندس التفجيرات"، فهناك عددٌ كبيرٌ قد أصبحَ كذلك، وسيقضّون مضاجع الصهاينة وأعوانهم بعون الله".
هذا ما حدث بالفعل: ففي الخامس والعشرين من شباط/ فبراير 1996، أي بعد استشهاده بما يقرب من شهرين، ثأر له "تلامذته" من خلال عددٍ من العمليات النوعية، فبدأت سلسلة هجمات استشهادية في كيان الاحتلال، أوقعت ستين قتيلًا إسرائيليًا فضلًا على عشرات الجرحى، خلال ما لا يزيد عن أسبوعين فقط.