بقلم: نجوى الموسوي
قصة واقعية مستوحاة من حياة الشهيد أحمد الأشهب (مع بعض التصرّف) استشهد بتاريخ 5 /2 /2000
نظرته العميقة والمتوثبة، كانت تحمل لي كأخيه، ألف جواب.
كان ذلك منذ أسبوع تماما، فلماذا لم أقرأها إلا الآن؟
في تلك السهرة ، بادرته بحديث ، وكان قد شكّل لي همّا لأيام وأيام:
" أرجوك يا اخي المشاكل في ورشة النّجارة تزداد بعد ذلك الحريق الذي سببه القصف الأخير، ونحن في حال حرجة، أريد قولها بوضوح كلنا نحتاج وقفتك معنا ...".
كان أحمد يستمع لي مستغرقا في التقكير، إلا انه لم يوجه نظره إلي ولا إلى أحد ممن تكتظ بهم ردهات مشفى بلدة "ريّاق"، من الأطباء والممرضات والزوار. كانت عيناه تحدقان بأعلى غصن من شجرة صفصاف تلوح خلف زجاج النافذة الواسعة لصالون الضيوف .
ظهرت الممرضة من غرفة العمليات، فوكزته، إلتفت وهبّ واقفا، وبلكنته البقاعية بادرها:
-" اعطاك الله العافية يا اختي بشّري !"
-" لا أخفي عليكم هناك ولادة قريبة جدا ولكن متعسرة بعض الشيء"
ولادة قريبة، وزوجته لم تكمل بعد الشهر الثامن من الحمل!
أحسست بأن هذه نقطة جديدة ستكون في صالحي كوني الأخ الأكبر، وأعتبر أني أقوم مقام الوالد (رحمه الله)، لأستمر في اقناع أخي أحمد بالتزام العمل مع شقيقنا الأصغر، في مصلحة صناعة الأثاث الخشبي المنزلي.
- "لقد ورثنا المنجرة عن الوالد وهي تكسب ذهبا، إذا ما أعطيناها حقها من العناية والإهتمام والدعاية أيضا!" ، ثم وجدت نفسي أقدم له شخصي كمثل مباشر "مهما كانت قناعتي ومحبتي لعمل آخر إلا أني لا أهمل أهلي وعيالي.. قدر المستطاع".
لم يعلّق أحمد على كلامي حول المنجرة ومستلزماتها، ولكنّه أكد لي بأنه ليس مأخوذا إلى أعمال تبعده عن عائلته وعوائل إخوته إلا لأجلهم .. وعقّب قائلا:
- "الا يضطر الرجل أحيانا للسفر يا أخي؟ بلى، قد يضطر لمفارقة من يحب، ولكن البعد عن فلذات الكبد مثلا، إذا كان هو الحل الوحيد لكي نؤمّن لهم قوت أيامهم ومستقبلهم فلم لا؟ المثل يقول بكاء ساعة، ولا بكاء كل ساعة!".
فكرت قليلاً وعدت أعمل على نقطة المولود المنتظر:
-" يا أخي لست أطالبك بأخيك الأصغر الذي نريد أن نزوّجه ونفرح به، هو -إن شاء الله- سيتمكّن من تدبير أمره، إنما مع المعاونة من قبلنا في تجهيز بيت العائلة، ليزفّ عروسه إليه، في أول ربيع بعد "الألفين". ولكن تأمل في حالك. بين دقيقة وأخرى تطلّ وليدتك على هذه الدنيا.
إن لم تفكر في مستقبلك فمن حقها عليك التفكير في مستقبلها، أمّن لها معيشتها أمّن لها الحياة الكريمة، أمّن لها الدراسة والعلم الحسن، أمّن له... ثم بعد ذلك فكّر بالمغادرة او الذهاب إلى أي مكان وحتى بالهجرة..، ها أليس ما أقوله حق؟".
كنت مستعداً للسهر ليلتها حتى الصباح لأصل مبتغاي. لكن أخي "أحمد" قاطع استرسالي، مستئذنا، ومسرعا إلى الهاتف.
أجرى مكالمة اختصر فيها الوضع للطرف الآخر، مؤكداً أنه لن يتأخر عن موعده أول الأسبوع القادم .
دُق جرس إنذار الضيوف بالمغادرة، أقنعني أحمد بضرورة الإنصراف، وشيعني حتى الباب الرئيسي موصياً:
-الراصد الإسرائيلي لا يتوقف في هذ الساعة من الليل، انطلق إلى بيتي، في سرعين وليكن مبيتك فيه مع أخيك الأصغر. أما حديثك فأنا أعدك أننا سنشبعه بحثا ونقاشا في الوقت المناسب".
عاد أحمد إلى قسم الولادات، ففوجىء بالممرضة تخطره بمنع تواجد الرجال في هذا القسم ليلا ثم بدأت تبذل جهدها في طمأنته على وضع زوجته المستقر حاليا بانتظار الغد.. مما اضطره للمغادرة، هو أيضا لكن إلى حيث يعمل الراصد الإسرائيلي، ولكن يد العناية الإلهية أنجته لحظتها من القنص ...
ولكن ما خشيه في الليل حمل النهار أخبار وقوعه فعلاً. فقد قام أحمد بالإتصال ببيت أحد الأقارب ليُبشره بقدوم طفلته البكر "فاطمة"، ولكن ليخبره أن رفيقا قديما لهم قد استشهد نتيجة غارة "للعدو الصهيوني" على قرية "مشغرة".
لدى عودة زوجة أخي ام فاطمة إلى منزلها في بعلبك، كان أحمد قد فكّر مليا كما وعد. تلقيته بالتهاني، وانفردت بالحديث معه عصر ذلك اليوم، فما كان من أحمد إلا ان بادرني:
-"... أمّن مستقبلك؟ أتقولها لي ثانية؟ أين تأمين المستقبل في ظل سيطرة هؤلاء على مقدرات حياتنا وحاضرنا وربّما مستقبلنا؟
-"أحمد، أرجوك لا داعي لردود الفعل سامر بخير، فقط السيارة هي المتضررة، وأظنه الآن مع الوالدة يجهزون ضيافة وحلوينة المولودة، للأقارب والجيران في الضيعة".
عاد ونظر إليّ تلك النظرة العميقة والغاضبة في آن واحد، وكأنه أرادني أن أحفظ جيّدا ما تختزنه.
-"أتعرف يا مصطفى لقد فكرت فعلا بتأمين المستقبل، تأمين المستقبل الحقيقي مستقبل الفخر لإبنتي، لقد اتخذت قرارا لا رجوع عنه، لن أخفيه عنك يا اخي .. أما حلوينة ابنتي، فهي جاهزة، و"المغلي" لم يعد ينقصه إلا الكراوية. لقد تعهد أبو عارف السمان بتجهيزها لي، سأذهب وأحضرها".
فتح باب السيارة مؤكدا:"لا تخف لن أنسى واجباتي تجاه العائلة ستظل روحي معهم دائماً".
ذهب، وانقضت أكثر من ساعة، ودوّت صاعقة لم أسمع صداها لكنني عرفت بها ليلا وأخبرت العائلة.
لقد تمت عملية مواجهة بين الجنود الصهاينة على تخوم البقاع الغربي، تصدّى شباب المقاومة، وبينهم شاب كان صلبا في قراره وعمله، وصلبا في تمسّكه بسلاحه.
أما أنا فغبت في تفكيري لأيام، وكانت تلك بداية لي أيضا، لتأمين مستقبلي على طريقته.