تصريح ومليون دولار!..
إنه يوم التاسع عشر من شهر تشرين أول/أكتوبر من العام 1994: صوت انفجار رهيب يهز شارع شارع ديزنغوف في مدينة (تل أبيب) الذي هو أحد أهم الشوارع الرئيسية في المدينة الاقتصادية الأولى في كيان الاحتلال (الإسرائيلي)، لترتفع إلى السماء أعمدة الدخان، فيما تعالى عويل سيارات الإسعاف.
اعترفت حركة حماس بأنها المسؤولة عن العملية، وأن منفذها هو الشهيد صالح نزال، من كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذي فجر نفسه داخل حافلة ركاب (إسرائيلية)، ما أدى إلى مقتل اثنين وعشرين شخصًا، وجرح ما لا يقل عن أربعين آخرين.
كانت العملية الثالثة من نوعها خلال خمسة أشهر فقط، وحملت توقيع "شبح الرعب" والمطلوب الأول للأجهزة الأمنية (الإسرائيلية): يحيى عياش. كان البحث عنه همهم الأوحد لسنوات. لقد كانوا يدركون أن تلك العملية لن تكون الأخيرة حتمًا.
قصة البداية
العام 1984، لم يكن الإعلان عن حركة حماس قد تم بعد. لم تكن آنذاك سوى جزء من الحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين عامي 48 و67، وفرعًا من حركة الإخوان المسلمين العالمية. في ذلك العام بالذات جرت عملية "استقطاب" يحيى عياش: تمت المسألة ببساطة من خلال جامعة بيرزيت، حيث كان طالبًا في السنة الأولى في كلية الهندسة وقتئذ. أدرك من اكتشفوه منذ البداية أنهم اكتشفوا "منجمًا من الذهب"، فقد كان عياش شعلة من النشاط في العمل الحركي.
عياش، المولود في العام 1966، في بلدة رافات في الضفة الغربية لأسرة متدينة، كان شابًا هادئًا ورزينًا، وذا شخصية قيادية؛ استطاع خلال فترة قصيرة إثبات وجوده بين رفاقه من الشباب المنتمين إلى الذراع الطلابية للحركة الإسلامية في بيرزيت، وشيئًا فشيئًا بدأت مهماته التنظيمية تتسع وتتشعب.
بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية، وتحديدًا من قسم الالكترونيات، أراد عياش أن يحصل على تصريح للسفر كي يكمل دراسته العليا في الأردن، ففوجئ برفض طلبه من سلطات الاحتلال، التي دفعت ثمن هذا "الخطأ" غاليًا، فقد عقب على ذلك رئيس جهاز الشاباك (الإسرائيلي) آنذاك، يعقوب بيري بالقول: "لو كنا نعلم أن عياش سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحًا، بالإضافة إلى مليون دولار"!
ما فعله عياش كان "رهيبًا" بالفعل: لقد تحول إلى "شبح الرعب" الذي خيم على الاحتلال (الإسرائيلي) لسنوات، فمنذ العام 1992، العام الذي أصبح فيه مطلوبًا لقوات الاحتلال بشكل رسمي، وانتهاءً باستشهاده العام 1996، وضع بصماته وبقوة على كل عملية تفجير مرعبة في كل شبر من كيان الاحتلال.
"المهندس العبقري"
يتحدث بعض من أرّخوا حقبة عياش عن أن عمله العسكري مع كتائب القسام قد بدأ وهو في سن الرابعة والعشرين، واستشهد دون الثلاثين، وبذلك يكون قد أمضى ما يقارب ست سنوات فقط في العمل العسكري! ما الذي جعل منه خلال تلك المدة القصيرة نسبيًا "أسطورة الرعب" بالنسبة للإسرائيليين، وجعل الأجهزة الأمنية تبحث عنه لسنوات؟
كان عياش محبًا للكيمياء، وقد استغل الانخراط في العمل العسكري مع كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس الذي كان حديث النشأة وقتها مع بداية انتفاضة الحجارة، في العمل على العديد من التجارب الكيميائية لصناعة المتفجرات، واستطاع صناعتها من خلال مواد بسيطة يسهل الحصول عليها من الأسواق المحلية. لقد كان عبقريًا بحق في مجاله.
كان التفكير لدى القائمين على حماس هو استخدام العبوات والسيارات المفخخة في قتل أكبر عددٍ ممكن من (الإسرائيليين). أول سيارة مفخخة جهزها عياش بنفسه عام 1992، اكتُشفت بالقرب من مستوطنة "رامات إفعال" في الضفة الغربية، وإثرها وُضع على قائمة المطلوبين للاحتلال.
آنذاك قدم عياش تصوره الخاص عن "سلاح جديد" وفتاك يمكن أن تستخدمه المقاومة الفلسطينية لأول مرة في تاريخها، فوافقت حركة حماس على استخدامه: العمليات الاستشهادية. لقد كانت هذه النقطة سلاحه المدمر الذي جعل الرعب يخيم في كل ركن من كيان الاحتلال طويلًا، ووضع بسببه اسم الحركة على قائمتي الإرهاب الأمريكية والأوروبية حتى الآن.
لقد كان عياش يدرك أن إحداث توازن في معادلة الرعب والخسائر البشرية خلال الصراع مع الاحتلال يحتاج إلى هذا "السلاح"، الذي يتطلب استخدامه "متطوعين" ذوي مواصفات خاصة للغاية، من حيث التدين والالتزام الأخلاقي، مع ملامح يمكنها أن تذوب في الشوارع (الإسرائيلية) بسهولة، والأهم: هو الاستعداد التام للشهادة.
يتبع...