ملاكٌ يزهو في الضاحية - فاطمة شعيتو حلاوي
غريبًا كان يومُها الأخير في دنيا البشر. خطواتها الرقيقة لم تكن تلامسُ الأرض. روحُها كانت تعرّج شوقًا وتهمس حبًّا. أمّا اسمها، فكان يشتدّ ألقًا، لينضح بما يكتنز من معانٍ عُلوية سامية. كلّ ذلك راودها وهي تتهادى كغمام الصيف خلفَ حلمٍ يتمايل أمام ناظريها، فترى نفسها ممسكةً بخيوطه المُذهّبة كلّما دنتْ منه ودنا منها.
كانت هذه المشاعرُ النادرةُ تدهمُ كيانها، تتغلغلُ بقوّة في أوردتها، تحيك حولها هالةً من نور تسلّلت حبّاتها المضيئة إلى كلّ من رآها في تلك الساعات المشهودة.
"كتير حليانة اليوم يا ملاك"، همست في أذنها رفيقتها كوثر في نهاية ذلك اليوم المدرسي. كانتا تجلسان جنبًا إلى جنب على المقعد في الباص، تتبادلان أخبار المدرسة والرفاق والعائلة ريثما تحينُ لحظة الفراق، لحظةٌ قُدّر لها أن تكون الأخيرة في سجلّ هذه الصداقة الطيّبة، فلا تتكرّر في اليوم التالي، ولا يتجدّد موعدُ اللقاء.
لطالما طلبت رضا أمّها، وتمنّت لو تحوزه على الدوام. ولطالما أمِلت في أن يشمخ أبوها ذات يومٍ لعظيمِ إنجازها. هذا جُلُّ ما أرادت ملاك زهوي ذاتُ السبعة عشر ربيعًا، الإبنةُ النابضةُ بالحياة، التي أصرّت قبل أربع سنواتٍ على هجران غربةِ البرازيل، لتعود مع والديها إلى وطنٍ حملها اليومَ شهيدةً فوق جراحه. فلا غربةَ بعدَ ذلك، وجسدُها بات يعانق ثرى الوطن.
حنونةً كانت، تمامًا كتلك الأرض المعطاء التي نادتها: "هلمّي إليّ". فـ"مجدل سلم" كانت ترتقبُ قدومَ ملاك باكرًا هذا العام، قبل أن يعشوْشبَ الحقل ويهبّ نسيم الربيعِ الدافئ. رغم صقيع "كانون"، كانت البلدة الجنوبيّة تفتحُ بحنوٍ ذراعيها لتلك الصبيّة اليافعة. لملاك التي نادتها رفيقاتها ذات يومٍ: "ماما".
بشوقٍ متأجج كانت تنتظرُ ملاك زيارة قريتها على مدى المواسم، ترتدي مع كلّ فصلٍ من فصولها حُللاً زاهية، كتلك التي يلتحفها الترابُ عندما يزخّ المطرُ أو تسطعُ الشمس.
نعم، هي الشمسُ نفسها، رأتها ملاكُ تلملمُ خيوطها الخجولة حين دقّت الساعة الرابعة عصرَ ذلك اليوم. كانت تبحثُ بين محالِ الحارةِ عن حلّة جديدةٍ يزهو بها ريعانُ صباها، قبل أن تحينَ ساعةُ المغيبٍ، بل قبلَ أن يصدحَ القدرُ بأوانِ الرحيلِ.
أحسّت بنسائمَ رقيقة تدغدغُ جفنيها المطمئنّين، وكأنَ الحلمَ الذي رافقها منذ الفجر بدأت تتضحُ معالمُه في فضاءِ عينيها البرّاقتين. وفي لحظةٍ عميقةٍ من الصمتِ الوقور، قبضت ملاكُ برفقٍ على حقيبةِ ملابسِها الجديدة، وثمّة من كان يقبضُ بحقدٍ على زنادِ الموتِ المتفجّر.
دوّى صوتُ الفاجعةِ في عرينِ الضاحية، ولكنَ نداءَ الصلاةِ ألهبَ السكينةَ في أفئدةِ المفجوعين. تناثرت كالهباءِ الذليلِ أشلاؤه. أمّا هي، فكانت تسمو إلى العلياءِ بروحها المتباهيةِ بالفوز العظيم، إلى حيثُ اكتملت صورة الحلمِ الموعود. بفرحٍ، هلّلَ الملاكُ الذي سكَن أنفاسها الأخيرة، صفّق بأجنحتهِ العملاقةِ في سماءِ الحارة، مبشّرًا أهلَ العرينِ بنصرٍ عتيد.
أمّا هنا، حيثُ نثر البخورُ شذى طيبه، بقيت ملاكُ تؤنسُ أحبابها، تنظرُ إليهم بشوقٍ من عليائها، متخايلةً بثوبها الناصع. تهمسُ في زوايا دنياهم أنها حيّة بينهم، تشاطرهم حزنهم القاني وتلوّنُه بالأبيض الأبيّ: فلا إرهابَ مزمجرًا يثنيهم، ولا فكرًا أسودَ يمحو ذكرَها.