،، ثلاثة صواريخ من البحر صوب مبنى أزرق قرب شاطئ الأبيض المتوسط حوّلت سماء ذلك النهار الشتويّ إلى اللون الأسود، والأرض إلى الأحمر،،
لم يكن فنجان القهوة صبيحة السابع والعشرين من كانون الأول (2008) دافئا بالقدر الذي حملته عشرات بل مئات الأطنان من المتفجرات التي أطلقتها الطائرات (الإسرائيلية) فوق أنحاء قطاع غزة كلها، فما عسى يكون وجه المقارنة بين نارين: نار الحب ونار الموت؟.
كنا نتسامر الحديث عن برنامج جديد للمونتاج المرئي ذي قدرة عالية على صناعة الخدع السينمائية والانفجارات، ولم تكتمل الرشفة الأولى من الفنجان من على شرفة برج فلسطين حتى كاد الانفجار يهوي بنا أرضا، وصرخة من صديقي: نعم هذه هي اللقطة التي أريدها!.
للحظة، لم ندرك الفرق بين الواقع والخيال، أو الحلم واليقظة، فثلاثة صواريخ من "هيلوكبتر" استهدفت اجتماعا لمقر الشرطة الفلسطينية المطليّ بالأزرق أعطت شارة البدء لحمم ألقت بها الطائرات من كل صوب على المراكز الحكومية كافة، فأودت بأكثر من 300 شهيد في لحظات.
بعدما أفقنا من الواقع على الواقع صرخ زميلي الثالث مناديا: الكاميرا.. الكاميرا، فلقد نسينا مع هول المشهد أننا صحافيون، ولم أتمّ إلا تصوير صاروخ واحد يبدو أنه تأخر عن إخوته في وصول الأرض مستهدفا مقر العبّاس قرب مستشفى الشفاء المركزيّ.
بينما كان نتجادل حول عدد الضحايا من 20 و30 إلى مئة، حرّكت الكاميرا إلى الجانب الأيسر فإذا بعشرات الفتيات يهربن من مدرستهن تاركات خلفهن أوراق الامتحانات التي لم يكتبن عليها حرفا واحدا، فالقصف سبق موعد اختبارهنّ الأكاديمي ليضع غزة كلها أمام امتحان صعب، اسمه الحرب.
نزلنا إلى الأسفل لنرى الخيارات المتاحة: إما تصوير الحرب التي اشتعلت للتوّ، وإما الذهاب إلى المستشفى لتفقّد من مات أو بقي حيّا ممّن لا يجيبون على هواتفهم، أو العودة إلى بيوتنا للاطمئنان على الأهل والتأكد من سلامتهم.
دفعة صواريخ أخرى قطعت حبل الأفكار المرخى بذهول بين الطرق التي مُلئت بالناس الهاربين كأنهم في يوم المحشر، ولكن هناك مركزا أمنيّا لم يقصف في ذلك اليوم هو موقع السرايا وسط مدينة غزة الذي بناه الاحتلال بعد أن تعاقب عليه العثمانيون والبريطانيون والمصريون والإسرائيليون.
هذا الأمر دفع كل المحيطين بـ"السرايا" إلى الإخلاء والقفز من شبابيك السيارات بدلا من فتح أبوابها للخروج منها، إلى أن ظهر باص صغير خرج منه ملثمون نصبوا صاروخي جراد، وأطلقوهما صوب الوطن المحتل، لتخرج مراسلة إحدى القنوات الفضائية بعد دقائق معلنة عن تسجيل أول حالة إطلاق صواريخ للمقاومة من وسط غزة.
قضية هذا الموقع كانت مريبة، فهو قُصف بعد عدة أيام أكثر من مرة، وكثرت التكهنات حول سبب تأخير ضربه ما بين أن (إسرائيل) لا تدمر ما تبنيه إلى حدّ ما قاله متخصصون في الأمن وهو أن هناك أجهزة تجسس للاحتلال داخل الموقع كان يستفيد منها وعليه أجّل الاستهداف.
كل تلك الأقوال والأحاديث لم تكن توازي شيئا أمام فظاعة المشهد في مستشفيات محافظات غزة، فنظرة واحدة إلى قسم الاستقبال في مجمع الشفاء المركزي توقف الزمن، بل أي قسم وساحات المستشفى الخارجية كلها أصبحت أقسام استقبال بل عمليات.
حتى الأطباء الذين كانوا مستنكفين عن العمل بناءً على أوامر من حكومة رام الله، خلعوا عن أنفسهم رداء الانقسام السياسي وهرولوا بسرعة نحو المستشفيات لعلاج الجرحى وإنقاذ من يمكن إنقاذه.
بدأت المصائب بالورود إلى بيوت الفلسطينيين التي اتشحت بالسّواد، فهناك من فقد ابنه أو ابنته بل عائلة بأكملها، وآخرون خسروا بيوتهم وتضررت محلاتهم، وحتى المقابر ليست جاهزة لاستقبال مئات الجثث دفعة واحدة.
رد غزة: ولى الزمن الذي نقصف فيه وحدنا
من استعجل الدفن قرر أن يفتح قبر والده أو جده ليضع ابنه فيه ويضمّ الجسد على الجسد ويفتح الحزن على الحزن، وآخرُ كان قد حجز قبرا لجثة ابنه الاستشهادي المحجوزة هي الأخرى في (إسرائيل)، لكن ولده الثاني استشهد اليوم، فكان نصيب القبر للأخ الثاني.
القصة لم تنته فصولها هنا، كأنّ الشهادة أصبحت تُورّث في غزة، فما هي إلا أعوام قليلة حتى لحق الأب ابنيْه حزنا على فلذة الكبد الأولى التي لم ير أو يلمس شيئا من جسدها.
ويعلن الاحتلال أن هذه الضربة التي جاءت على حين غفلة في "السبت" يوم إجازة جيشه المعهودة هي أول المطر، ضمن عملية سمّاها الرصاص المصبوب أو المسكوب مع اختلاف الترجمات ومقاصد اللفظ، ثم يصرح قادته ممن يلبسون البزّة العسكرية أن ضربات الجوّ ستستمر أسبوعا، وفي السبت المقبل موعد الاجتياح البري لإعادة احتلال غزة.. ولم أدر حتى اللحظة كيف انتهى ذلك اليوم.
رابطا فيديو للعدوان على غزة 2009
رابط الفيديو الأول
https://www.youtube.com/watch?v=QtAvbxRAAYA
رابط الفيديو الثاني
https://www.youtube.com/watch?v=R1wSH9oBzJ4