بعد مرور عشرة أيام على بدء التحقيق معي، وصل المحققون إلى طريق مسدود في نزع الاعترافات، فقرروا الانتقال الى مرحلة تشديد العقوبات عَلَيّ.
وقتذاك، نقلوني إلى مركز تحقيق آخر، عَرَفْتُ في ما بعد أنه في صيدا. وعند دخولي الى المركز، عُدْتُ لِأسمعْ نفس السمفونية، إذ إنني، وكلما وصلْتُ إلى أحد الجنود، كان يقوم بضربي أو "لَبْطي" أو مُناوَلتي بكعب البارودة على ظهري، صارخًا: مخرب، مخرب. والظاهر أن المحققين قد وضعوا إشارة مكْتوبة على ظهري تُفيدْ بِأنني من الحالات الميؤوس منها، فما كان من أي جندي يقرأ تلك العبارة، إلا ويلقنني ما في النصيب. ثلاثة أيام أمْضَيْتها في صيدا، ما لبثوا بعدها أن أَعادوني إلى "ريجي النبطية".
بعد عودتي، عاد المحققون ليتابعوا معي التحقيق بوتيرة يومية. وفي إحدى جلسات التحقيق، عاد أبو ابراهيم وفتح لي موضوعًا كان قد سألني عنه سابقًا:
-"شو بتعرف عن شكيب؟ (وهو اسم مستعار لأحد الشباب المقاومين، وكان يشارك معي في تحركاتنا).
- فقلت له : "صرت قايِلَكْ مئة مرّة إنّو مش سامع بهالإسم!".
عندها، خرج ابو ابراهيم من الغرفة، ودفع بشابٍ إلى داخلها وأقفل الباب، وتَرَكنا لوحدنا.
إستَدَرْت ناحية الباب، ويا للمفاجأة!!! إنّه شكيب بشَحْمِه ولحمه...
صمتٌ وذهول للحظات. إذْ إنّ آخر ما كنت أتوقعه هو إحضار شكيب لمواجهتي به.
مرة أخرى يتدخل الإلهام الرّباني فقلت له:
- مين الشَّبْ؟ ما تعرَّفِت بحضرتك؟!! (وكنت أبغي أن أعطيه إشارة أنني لم أعترف عنه).
- أنا فلان الفلاني.
-من أيّ ضيعة حضرتك؟!
- من الضيعة الفلانية.
- تشرفنا بمعرفتك. ويا ليتنا متْعِرْفين عليك من زمان!
مرة أخرى يسود الصمت في الغرفة، فيبادر شكيب قائلاً:
-وحضرتك مين؟
- بلا ما تِتْعرف علَيّي أحسنْ. حَكولِي عنك المحققين كثيرًا. شو بدك بهالمعرفة.
قُلْتُ له هذه الجملة وأدرتُ وجهي إلى الجهة الأخرى، فأصبح ظهري إلى وجه شكيب.
خمس دقائق من الصمت المطبق، دخل بعدها المحقق إلى الغرفة مَزْهُوًّا، وقال لي:
-"يلّا... تْعَرَّف على صاحبك!".
- فأجبته غاضبًا وبصوتٍ عالٍ (بعد أن "تَبَلَدِتْ" أي صرت بلدياً): ما قِلْتِلَكْ 100 مرة إنّو ما بِعِرْفو. من وين جايْبينْلي ياه!. شو ما بْتِفْهم؟؟!!...
عندها توجه إلى شكيب قائلاً: "طيب، يلّا تْعَرّف إنتِ على صاحبك"!.
فأجابه شكيب مرعوبًا: وأنا كمان ما بعرفو.
عندها، أخرج أبو ابراهيم شكيب من الغرفة، وعلمت أنه ما لبث أن أفرج عنه لاحقًا.
إثر إخفاق هذه المحاولة، إرتفع مستوى التهديد إلى حد تهديدي بإحضار زوجتي إلى "الريجي". وكنت قد استبعدْتُ أيضًا مِثل هذا الفعل، إلى أن أتى يوم، وهو ما علمته لاحقًا، وإذ بباب بيتنا يُطْرَق.
-مين عمْ يْدِقْ ؟ (قالت زوجتي).
-أنا فلان الفلاني (وكان أحد العملاء من القرية).
- لَيْكي، اليوم بلَّغوني إنّو جابوا زوجك عالريجي، وعندك مقابلة معو بكرا(غدًا).
- خير إن شالله، بُكْرا بِنْزَلْ.
أخبرتني زوجتي تصف ما جرى معها: وبالفعل، صلّيْت الظهر، ونزلت مع أسلافي وبنتي التي كان عمرها خمسة أشهر إلى الريجي. وصلنا إلى هناك. صَعَدْتُ وحدي وبقي أسلافي وابنتي في السيارة. وبعد تفتيشي، أدخلوني إلى غرفة تحقيق مليئة بأجهزة التنصت، وتعمدوا حينها إمْراري في بَهْو الريجي لِكَي أرى حال المعتقلين المأساوية، وكيفية معاملتهم من جانب الجنود، وذلك بهدف إرْعابي.
دَخَلْت الغرفة، وإذ بأحد المحققين يدخل ويبدأ معي التحقيق. سين وجيم سين وجيم... حتى انتهينا من التحقيق، خرج بعدها المحقق لِيتركني وحيدة، وما هي إلا لحظات حتى دخل زوجي. عناق ومشاعر لا توصف. هذا اللقاء الأول بعد تنفيذ العملية منذ حوالي ثلاثة أشهر. بعد أن هدأَ روْعُنا، جلسنا لِنَبْدأ الحديث. لا زلت أذكر ذلك اللقاء جيدًا، كان في حالةٍ يُرْثى لها، و"بيجامته" عليها بقع دم من آثار جرحه. أثناء اللقاء شعرْتُ أنّه كان حريصًا على أن يبقى الكلام في العموميات.
- كيفكم؟؟ شو أخباركم؟؟ أهلي وكل العيلة كيف؟
فهمت حينها أنه يتوجب عليّ أن لا أدخل في التفاصيل، فلم أسأله عن شيء، وإنما بقي الحديث عن أحوالنا العامة.
مرت خمس دقائق، دخل بعدها المحقق ليقول لزوجي: "لَيْك، هيدي مَرْتَكْ هون، إذا ما بدَّكْ تِعْتِرِفْ، نِحْنا مْنِعْرِفْ شغلنا...".
انتهى كلام زوجتي، حينها، لعلها كانت الجولة الأولى والوحيدة التي شعرتُ فيها أن أبو ابراهيم "غَلَبَني" فيها. أنهى هذا الأخير كلامه، ثم أخرجوا زوجتي من الغرفة، وأخذوني إلى الزنزانته مجددًا، فيما نقلوها هي إلى غرفة جانبية، حيث بقيت فيها ثلاث ساعات لوحدها، لِيَأتي بعدها جندي ويُخْرجَها إلى المدخل الخارجي، حيث كان إخوتي في انتظارها...
محمود نضر
في الحلقة القادمة:"صلاةُ الأسير تُرْعبهم"...