يكابد الشعب الفلسطيني الاحتلال منذ حوالي قرن من الزمن، منذ أن جثم على صدره الانتداب البريطاني، ولم يُخلِ قبل أن يورِّث غيه إلى مجموعة من شذاذ الآفاق، دانت لها الأمور في هذا البلد، فنكلت بأهله، وافتتحت لاحتجاز حرية شبابه عشرات المعتقلات التي لا تقل عنصرية عن غيرها في التاريخ القديم والحديث. معاناة الأسرى في فلسطين خبز يومي، ومع كل إطلاق سراح تُنصب للأعراس منابر من فرح... ما يزال الفرح مأمولاً في فلسطين. في ما يلي مشاهدات لمراسل "موقع المقاومة الإسلامية" في فلسطين المحتلة عن تحرير الأسيرين المجاهدين: عادل صادق ومصعب البريم.
هاني إبراهيم- غزة
صوب جنوب الجنوب حيث مدينة خانيونس أدنى خريطة الوطن فلسطين، هناك يمّمت كاميرا "المقاومة" لتنقل مشهد التحرير وفرحة الإفراج التي يتمناها كل أسير يعدّ ما تبقى من أيامٍ خلف القضبان.
أسيران فلسطينيان تنفسا هواء الحرية في قطاع غزة بعد اعتقالهما 10 سنوات متتالية بتهمة "مقاومة الاحتلال" والتجهيز لعمليات ضده.
عادل صادق ومصعب البريم اللذان اعتقلا يوم كانت غزة تحت الاحتلال، ها هما يعودان إليها اليوم دون أن يريا المستوطنات والحواجز (الإسرائيلية) التي ألِفاها، بل كانت بداية رحلة الأسر عند أحدهما بين خانيونس ودير البلح ، وكان يسمى حاجز المطاحن.
وكانت القوات (الإسرائيلية) المتمركزة في أنحاء متفرقة من شمال القطاع حتى جنوبه تتعمد تعذيب المواطنين الفلسطينيين وإذلالهم على حواجزها المنتشرة قرب المستوطنات، إلى أن جاء موعد التحرير العام 2005 وغابت عن غزة ظلمة الاحتلال.
صادق(38 عامًا) لا يزال يتذكر الأول من شهر ديسمبر عام 2003، فهو الموعد الذي اعتقل فيه مع البريم (28 عامًا) عند "المطاحن"، ويقول إنه يستحضر في ذهنه مجريات ذلك اليوم كأنها حدثت البارحة.
ويضيف لـ"المقاومة": "انتابني شعور بالخوف في البداية، فقد كان جلّ تفكيري في أهلي فضلا على أن الاحتلال كان يشيع بين الناس أن من يخرج من سجونه يصاب بعاهة مستديمة".
الأسير المحرر مصعب البريم
تدريجًا، بدأ صادق ومعه البريم يشعران بالأمان بعد أن وجدا أنّ من سبقهما في الأسر صنعوا من السجن مكانًا لبناء الإنسان أكاديميًا وروحيًا وأخلاقيًا، رغم ما يتوخاه الاحتلال بقصد تحطيمهم.
يصف الأسيران الحياة داخل الأسر بأنها معركة مستمرة على مدار الساعة ضد العدو، لكن بأدوات مختلفة، فهدف الفلسطينيين - وفق قولهما- المحافظة على الكرامة مقابل محاولة الاحتلال إذلالهم.
في بعض الأحيان، الأحداث تصل - كما يقول البريم- إلى حد "أن يخرج أحد الأسرى، رغم معرفته العقوبة الكبيرة، ليتكفل بتأديب أحد الجنود أو الضباط لمجرد أنه تعدى الخطوط الحمر، التي كانت إدارة السجون تعرفها وتتجنب تخطيها عادة ".
حزن يحارب الفرحة
حدثان اثنان شكّلا علامة فارقة في مدة أسر كلا المحررين، الأول وصول نبأ إلى صادق مفاده أن زوجه حامل، ولاسيما أنه اعتقل بعد زفافه بأيام، ولكن الثاني شكّل صدمة للبريم بعد 8 سنوات من الاعتقال، وفيه أن والده قد فارق الحياة.
يقول البريم: "لم تبق إلا سنتان (2010م) وكان سيفرج عني وأرى أبي، لكن الموت حال دون ذلك، بعدما منعه الاحتلال من زيارتي. كان رجلاً مؤمنًا وصابرًا على فراقي".
الأسير المحرر عادل صادق بين الأهل والأحباب
أول ما فعله مصعب بعد تحريره هو التوجه مباشرة إلى زيارة قبر والده، في قرية بني سهيلا، وأداء صلاة الغائب عن روحه.
يستذكر كيف مرت تعازي والده في السجن: "موقف الأسرى معي في تلك اللحظات العصيبة كان له أشد الأثر، فتصبرت واحتسبت أمري وحبست دموعي التي سالت لأيام دون توقف". إلا أنه رغم الفراق والأسى لا يزال يشمّ ريح والده الطّيب في وجه والدته التي ظلّ طوال اللقاء يدعو لها بدوام الصحة والعافية.
ظلٌّ لا يفارقه
تكفي نظرة واحدة في خيمة استقبال صادق ليلحظ الجالس كيف تلتصق ابنته "رانيا" به كأنها ظله الذي لا تفارقه، وهي التي حُرمت عناق والدها عشر سنوات.
ويتابع صادق: "أمي زارتني بعد أيام من مولد ابنتي وأخبرتني بالنبأ، فوزعت الحلوى والعصير على أسرى القسم كلهم".
يشير الأسيران إلى إن أكبر معاناة تواجه الأسرى الفلسطينيين حملة التنقلات بين الأقسام التي تمارسها "إدارة مصلحة السجون" بحقهم، وتهدف منها إلى منع أي أسير من الاستقرار والتأقلم مع مكان ما وزملاء محددين. ومثالاً على ذلك، قضى صادق آخر أيامه في معتقل "رامون"، في حين أن البريم عاش لحظات ما قبل الإفراج بين جدران "نفحة".
ويؤكد كلاهما أن فرحتهما لم تكتمل، فهما خرجا نحو شعاع الشمس من بين أقبية معتمة لا يزال حوالي 4500 أسيرًا و26 أسيرة يقبعون فيها. وناشد الإثنان العالم النظرَ إلى حال الأسرى المرضى على وجه الخصوص. ويتساءل البريم: "إذا كان الإنسان المريض خارج السجن يحتاج إلى رعاية خاصة في حالات كثيرة، كالأمراض المزمنة، فكيف بالمعتقلين الذين يحرمون الزيارة والعلاج والأدوية؟"، مبينًا أن قائمة الأمراض طويلة ومتعددة، لكن أخطرها السرطان والفشل الكلوي والوباء الكبدي.
السجن مدرسة
رغم هذه المعاناة فإنهما يشيران إلى أن السجن ساعدهما على صناعة الذات، فعادل كان له جدول خاص حارب به الملل خلال الأوقات الطويلة التي قضاها هناك، ساردًا بعض النشاطات التي كان يمارسها كالقراءة الذاتية والرياضة وحفظ كتاب الله وتفسيره. فضلاً على الرسم على الجدران، إذ يقول إنه كان يحرض دومًا على رسم صورة ابنته" رانيا"، فيتصورها كيف نمت وكبرت، وكذلك ينقل ما كان يراه في قلبه على جدران السجن مباشرة".
أما زميله مصعب، فبيّن أن مدة اعتقاله كانت رحلةً للبحث عن الحقيقة التاريخية والفلسفية، مكملا: "منَّ الله عليّ بحفظ القرآن والحصول على السند المتصل إضافة إلى دراستي التاريخ في جامعة الأقصى، واللغة العبرية في الجامعة العبرية". وبينما يسعى إلى إكمال تعليمه بعد إعاقة الاحتلال مسيرته الأكاديمية، فإنه يخطط للبحث عن عروس، بعد أن أطال السجن فترة عزوبيته 10 سنوات إضافية.
ورغم أن قطار صفقة "وفاء الأحرار" التي تمت قبل عامين (2011) فات صادق والبريم، فإنهما خرجا أحرارًا بعد أن أمضيا مدة حكمهما التي سجنا فيها بتهمة الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتخطيط لتنفيذ عمليات ضد (إسرائيل).
أما اليوم، فهما وإن كانا يُسرّان بالنظر إلى جموع المهنئين التي أغرقت خيمتي استقبالهما، إلا أن مشاعرهما لا تفارق من تركا خلف القضبان، وهما هنا لا يجدان بدًا من مطالبة المقاومة بالعمل على إنجاز عمليات خطف وتبادل أخرى حتى إخلاء سجون بني صهيوني من أبناء فلسطين.