بهاءُ وباقر.. تنطقُ الصورةُ اسمهما -فاطمة شعيتو حلاوي
تسلّل بين الجموع الغفيرة بروّية وذكاءٍ مُعتادين. راح يقتطف ببراعة، لحظاتٍ تاريخية لمسيرة انطلقت دعمًا للمقاومة الإسلامية. كان همّه الأكبر أن تنقل كاميرته صور المحتشدين على حقيقتها، دون أن تثنيه التفاصيلُ والعثرات. أعياهُ أن يلتقط من مكان وجوده مشهدًا أراده استثنائيًا. ارتأى المرور في "زاروب" ضيِّق، علّه يحصل على اللقطة المرجوة من نقطة أكثر إشرافًا. تسلّق بعزمٍ جدارًا عتيقًا، مستنداً إلى عمود حديدي، وما كاد يرفع بثقل جسدهِ إلى أعلى، حتى أحسّ بالكهرباء تنخرُ مجرى دمه، وبولادة صراعٍ عجولٍ بين الحياةِ والموت في كلّ جسده!
بيْدَ أن قوّة غريبة شدّت بساقيه المرتعدتين إلى الأسفل، وجعلته يشعرُ بدبيب الروح في أوردته من جديد. كانت تلك القوة تنبعث من يديّ أحدهم لتحولَ – بعزمٍ- دون وقوع مكروه :"هل أُصبت بأذىً؟ هل أنت على ما يُرام؟"، سأل "بهاء".
نظر إليه "باقرُ" مليًّا. تنبّه إلى أن ملامح هذا الشاب كانت حاضرة في كلّ مكانٍ صوّر فيه المسيرة. نعم، لقد كان يترصّد خطواته أينما تحركت عدسة كاميرته: "شكرًا لك، لقد أنقذتني. ما اسمكَ؟". سؤالٌ فتح ستار اللقاء أمام مسيرةٍ أطولَ وأكمل، تعانق فيها اسما "باقر وبهاء"، وتكلّلت فصولُها الأخيرةُ استشهادًا أثناء تأدية الواجب الإعلاميّ.
تلك الصفاتُ والمشاعر الإنسانية الحقّة ميّزت الشهيد بهجت حسن دكروب "بهاء" (1/ 9/ 1972) عن أقرانه. لقد حصد صداقاتٍ جمّة من حوله بفضل نقاء روحه وبراءته وعفويته. حبُّه للناس، صغارًا وكبارًا، كان يوازي حبّه للحقيقة وجلاء صورتها؛ لذا استهوتهُ عدسةُ التصوير، حتى باتت بالنسبة إليه القريب المُقرّب والصديق الوفيّ، الذي لا يعرف خداعًا أو كذبًا. وكذا رفيق دربه الشهيد أحمد ابراهيم حيدر أحمد "باقر" (15/ 1/ 1966)، خرّيج كليّة الإعلام، ذو الجرأة والهدوء مجتمعين، الذي امتهن التصوير وحجز لنفسه موقعًا مميّزًا في قناة "المنار"، إلّا أنّ الإعلام الحربي كان الميدان الأمثل، حيث جسّد فيه "باقر وبهاء" رسالتهما: "الصورة الحيّة في خدمة نهج المقاومة".
لطالما اصطحب الرفيقان معدّات التصوير في مهمّات جهادية انطلقا إليها معًا، وكم من مرّة أثار انفعالهما الظاهر أو صمتهما المدقع فضول المقرّبين، عند عرض مشاهد عمليات المقاومة في مجالس يوجدان فيها.
وكما تربّع حبُّ الصورةِ على رأسِ اهتمامات "بهاء"، فإن تكوين أسرةٍ متواضعة آنس عمرَه اليافع، إذ منّ الله عليه بزهرته الوحيدة "ضُحى". أمّا "باقر"، فآثرَ "بيتًا أزليًّا"، على آخرَ كان والده بصدد رفع أعمدته الأولى.
عند عتبة الأسبوع الأخير من تموز العام 1993، وقبل إيذان العدو الإسرائيلي بقرع طبول عدوانه الهمجي على لبنان، أذنت السماءُ بعروجِ "بهاء" شهيدًا إلى بارئه، أثناء أداء واجبه الإعلامي في عملية بئر كلّاب النّوعية (23/ 7/ 1993)، في حين لبّى "باقر" نداءَ صونِ الحقّ والحقيقة بعدَ ثلاثة أيام من ارتقاء رفيق دربه العزيز.
ففي بداية عدوان تموز ذاك، وحين كان العدّو الصهيوني يصبّ جامّ حقده على أرض الجنوب وشعبه، تمكّن مجاهدو المقاومة من سحبِ جثمان الشهيد "بهاء" من ميدانِ المعركة، بينما كان "باقر" يوثّق بعدسته هولَ الاعتداء وبشاعةِ بصماته المدمّرة.
في بقاع قرية "معروب"، اقتنص "باقر" فرصةَ تصويرِ موقعٍ استشهد فيه أحدُ المقاومين، متحدّيًا صلافة الطيران المُعادي في أجواء البلدة. عينُه كانت مُصوّبة على العدسة، ولعل قلبَه كان يميلُ بشوقٍ إلى حيثً سبقه "بهاء".
لم يطلِ الانتظار، فقد أصابت قذائفُ الطيرانِ الإسرائيلي جسدَ "باقر" مباشرة، لتنساب روحه من بينِ الدماءِ الزاكية إلى مثواها الأبدي، ولتبقى الكاميرا شاهدًا حيًّا على لحظاتِ الشهادة المجيدة (27/ 7/ 1993).
لقد شاءت حلاوةُ القدرِ أن يُشيّع المجاهدون جثماني الشهيدين المصوّريْن معًا، وكأنهما تعاهدا على رحيلٍ واحد تؤرّخه عدسةُ المقاومةِ في صورةٍ واحدة حملت توقيع "باقر وبهاء". صورةٌ كُتبَ لها أن تنطقَ مع بزوغ كلّ فجرٍ عزًّا ونصرًا.