بحثًا عن صورة محمد
مروان حجازي
بين سنابل القمح، وشتلات التبغ، نشأ محمد حسن في عائلة تعتمد في عيشها على الزّراعة ، مثلها مثل جميع العائلات المقيمة في عيترون؛ ورغم حالة الفقر التي كان يعيشها، رفض محمد كل المغريات الّتي كان يقدمها الاحتلال وعملاؤه للشّبان في تلك الفترة، وأبى إلاّ أن يكون حرًا.
ورغم إصرار محمد، ورفضه التّعامل مع العدو، أصرّ أحد العملاء على تجنيده والعمل لصالح العدو، عندها أجابه محمد بالقبول. فطلبوا منه مهمة رصد أحد الأخوة المجاهدين والتقرّب منه واغتياله.
لاحقًا ذهب محمد إلى الأخ المطلوب رصده وأخبره بما طُلِب منه، طالبًا منه العمل لصالح المقاومة. وافقت المقاومة على طلب محمد، وبدأ بالعمل الأمني المضاد؛ إلى أن جاء اليوم الّذي أصرّ فيه محمد على تصفية واحد من أبرز العملاء الأمنيين:علي حسين قاسم.
بعد موافقة قيادة المقاومة على تنفيذ العملية، عاد محمد حسن إلى عيترون عن طريق معبر بيت ياحون، وتوجّه إلى بيت أخته ليلى، تناول العشاء الأخير له وصلّى المغرب، ثم أعطى أخته صورة له، ولعلها الصورة الوحيدة له، إذ ليس مستبعدًا أن يكون محمد - من ضيق الحال- لا يملك مالاً في ذلك الوقت ليتصور. وقال لأخته وهو يغادر: "هذه الصورة حتى تتذكروني". ثم همس في أذن صهره علي: "يمكن أن استشهد"، ومشى...
الصورة اليتيمة للشهيد محمد حسن
تروي زوجة العميل المذكور، أن محمدًا زار زوجها مساء ذلك اليوم وجلسا معًا ، ثمّ خرجا سويًا. وبطلب من العميل جلس محمد في المقعد الخلفي كي لا يراه أحد، وعند وصولهما إلى ساحة البلدة، أطلق محمد عليه الرّصاص من مسدسه الكاتم للصوت فأصابه في رأسه، ففقد السيطرة على السّيارة الّتي انحرفت عن الطريق وسقطت في بركة زراعية تقع في وسط البلدة.
بعد مضي حوالي السّاعة تبيّن للعملاء أنّهم فقدوا الاتصال بالعميل "علي حسين قاسم" فشرعوا يبحثون عنه في أنحاء البلدة، إلى أن وجدوا سيارته في البركة، فتيقنوا أنّ المقاومة قامت بتصفية أحد رموزهم. على الفور علا السؤال: "أين محمد حسن؟"، وبدأت رحلة البحث عنه.
في هذا الوقت كان محمد قد وصل إلى خراج بلدة كونين المحتلّة آنذاك، حيث شاهده أحد الرعاة يدخل إلى مغارة ليستريح بعدما أعياه طول المسير. وصلت دورية للعملاء بقيادة العميل حسين عبد النبي إلى المنطقة المذكورة، والتقوا بالراعي الذي أخبرهم بمكان وجوده.
اعتقل محمد في الوقت الذي كانت مجموعات أخرى من العملاء تداهم منزل أهله حيث اعتدوا بالضرب المبرح على والده ووالدته، و كانت مجموعة أخرى تسبقهم إلى منازل شقيقيه في القرية، حيث تم اعتقالهما وسوقهما إلى خارح البلدة، ومن ثم تصفيتهما على الفور.
بركة عيترون حيث تم قتل محمد وحرق جثمانه الطاهر
في الصّباح نادى العملاء على أهل القرية عبر مكبّرات، طالبين منهم التجمّع في الساحة للتّعرف على قاتل العميل "علي حسين قاسم". تجمّع النّاس في السّاحة، وإذ بسيارة مسرعة تخترق الحشود ثم تتوقف، ويُخرج منها شاب عشريني، لم يعرفه أحد بداية. توجهوا به نحو تل صغير وأوقفوه فوقه كي يراه جميع من في السّاحة. من شدّة التّعذيب والكدمات الّتي تلقّاها، لم يكن وجه محمد حسن كما عرفه الكثيرون. وقف محمد بين الجموع والبسمة تعلو وجهه، ينظر إلى السّماء مستهزئًا بعشرات البنادق الموجهة إليه .
لحظات، وأعطى أحد العملاء الأمر للعشرات منهم بإطلاق النّار على محمد. اخترقت جسده مئات الرّصاصات. سقط محمد شهيدًا بعدما كبّر وتشهّد. كلّ ذلك جرى بحضور نحو ألف شاهد من أهل البلدة، بل ربما أكثر من ذلك. بعضهم غادر بصمت، ليس اعتراضًا على حكم العملاء، إنّما بحجّة أنّه لا يستطيع تحمّل رؤية الدم، والبعض الآخر ظلّ يراقب حفلة الموت، حتى النهاية. والنهاية كانت لحدية بامتياز، إذ لم يكتف العملاء بهذا القدر من الجريمة، بل عمدوا إلى إحراق جثة محمد، في أبشع عملية انتقام شهدتها المنطقة المحتلة من جبل عامل، خلال سني الاحتلال الطويلة.