مضت الساعات الست، وصلنا الى المحطة الثانية في رحلة الأسر. كان الوقت قرابة الفجر. أنزلني جنديان عبر درجٍ طويل، خُيِّلَ إليّ أنه مدخل "قبو". أذكر يومها تلك "البيجاما" الزرقاء الصيفية الرقيقة التي ألبسونيها في المستشفى. "بيجاما" "بتُقْرَصْ" 1 البرد في عز آب إنت ولابسها، فما بالك في كوانين 2 .
دخلت إلى "الريجي" 3 على أصوات الخبيط والتعذيب والصراخ. دخول يصحبه شعور كبير بالخوف، خاصة مع الصورة المُكَونة عن "الريجي" كمركز للتَفَنُنْ في أساليب التعذيب.
وبعد أنْ استقرَّيْت في زنزانتي، بَدَأْتُ محاولة استكشاف المكان. فعند أول دخول إلى الحمام، وكانوا قد نزعوا الكيس عن رأسي، استرقت النظر من النافذة الصغيرة، فَبانَتْ لي أطراف كفررمان. مرت دقائق فسمعت صوت الأذان، مرة أخرى، تلقيت جرعة دعم معنوية.
في اليوم التالي، أستيقظت فجرًا على أصوات ضجة كبيرة في الريجي. وصلت دفعة جديدة من المعتقلين، وقد جرت العادة بإحضار المعتقلين في هذا التوقيت، يذهب بعدها المحققون والجنود للنوم، ثم يتابعون التحقيقات عند العاشرة صباحًا.
خلال هذه الفترة الممتدة بين الفجر والعاشرة صباحًا، كنا ننادي على بعض، لنستقي أخبار الخارج من الوافدين الجدد. كما كان الأسرى القدامى ينبهون أولئك الجدد، الذين لا يتمتعون بخبرة التحقيقات. يومها، كان الدرس الصباحي عن "عميل الزنزانة"، وصدح أستاذ الأسرى قائلاً:
"انتبهوا يا شباب، هيدا العميل بكون معكم بالزنزانة، وبْيِعمل حالو بطل، مش مْخَلّي عملية إلّا و عاملها ضد اليهود... ومرات بيعمل حالو مسكين، وإنّو "ماكِلْ أَتِلْ لَمْفَرِق شَتِلْ" 4 من المحققين... يعني بيعمل ١٠٠ رواية وحكاية كِرمال "يِشْفَقَكْ" قلبك عليه، وبَعدين بيبدا ياخُدْ منك المعلومات... "ديروا بالكُمْ ها"... ما بدنا "هَرْهَرِة 5 حكي"....
عند العاشرة، وصل دوري للمثول أمام المحقق أدخلوني إلى غرفة التحقيق. غرفة متران بمترين، فيها مكتب وكُرْسيان وآلة تسجيل وآلة لفحص الكذب. عند الدخول إلى التحقيق، كما إلى الحمام، كنت أشعر بأنّني حصلْتُ على "نصف إفراج". وذلك بسبب بعض الامتيازات الممنوحة أثناء التحقيق، من نزع لكيس الرأس، إلى فك الكلبشات، إلى التنعم بوهج مدفأة المحقق. هذا الدفء الذي كنت أفتقده وقتذاك، وكنا قد اصبحنا في شهر كانون الأول/ديسمبر.
إذاً، دخلت الى التحقيق الأول مع كبير المحققين في الريجي، ذي الملامح الغربية، لكنه صاحب لكنة عربية. محقق ماهر بل مخضرم. صاحب ذاكرة حديدية. الوجه الذي يراه مرة، لا ينساه طوال حياته. كان حافظًا لجميع أسماء المعتقلين. ينادي كلاً باسمه. يُتْقنُ فنَّيِ الترغيب والترهيب. همه الوحيد الحصول على المعلومات. إنّهُ أبو ابراهيم.
أبو ابراهيم هذا، كان يبدأ معي بعرض بعض المغريات : بدك سيجارة؟ بْتِشْرَبلَكْ فنجان قهوة؟. وأحيانًا، عندما كان يراني مرتجفًا، يوعز لأحدهم قائلاً: ليش تاركينو بردان؟ جيبولو دفاية"....
ذاك الداهية، كان يلعب في حضوري دور العطوف عَلَيّ، وفي غيابي كان يوعز لهم بحرماني من النوم، وبوضعي على البلاط مع تلك "البيجاما الرقيقة"... .
بدأ التحقيق رسميًا. سحب أبو إبراهيم دفترًا وقلمًا، وأخذ يرسم دوائر صغيرة، الواحدة تلو الأخرى، ثم قال لي:
- "بتِعْرف المَسْبحة كيف بِتكون؟
- فأجبته: اي بعرف.
- طيب... فينا نشيلْ شي حبة من المسبحة؟
-لأ!!... بتفرط.
- عندها قال لي: ليك... هذه الدوائر مثل حبات المسبحة، ما فينا نْشيلْ ولا دائرة... أشخاص، سلاح، عمليات، رَوْحات، مَجْوات، معارف وكل شي كنتوا تعملوا... بدك تحكيلي عن كل شي بالتفصيل، وْبَلِّشْ من مطرحْ ما بدَّكْ... والدائرة اللّي بتعجبكْ بلِّشْ فيها!!...
في الحلقة القادمة: ابو ابراهيم والسمكة الذهبية...
محمود نضر
1 كناية عن البرد الشديد الذي يقرص.
2 المقصود هنا الكانونان، الأول والثاني.
3 مركز اعتقال اتخذه الاحتلال قرب مدينة النبطية.
4 كناية عن شدة الضرب.
5 ثرثرة.
6 ركلة.
7 الحذاء العسكري.