بعد يومين من فقدان الوعي، بدَأْتُ أستيقظ تدريجًا، و"أصبحتُ قادرًا على فَتحِ عيني. كانت الرؤيا "طَشاشْ" 1 وَ حالتي نصف نائم ونصف يحاول الاستيقاظ.
ثلاث ساعات مرَّتْ، حتى أصْبَحتُ أشعر بجسمي. حاولت تحريك يدي وقَدَمي فَلَمْ أستطعْ، "كانوا مْكَلْبَجين" في السرير 2. إلتَفتُّ إلى جانبي، وما إن هَمَمْتُ بِرفعِ رأسي، حتى تأهَّب جنديان، واحد عن يميني والآخر عن يساري، ووجَّها سلاحيهما نحو رأسي.
عُدْتُ واسْتَلقَيْتْ، محاولاً أن أعرف مكان وجودي. أين أنا؟ مع من؟ منذ متى أنا موجود هنا؟. أسئلة ولا إجابة.
عند المساء، وبعدما استَعَدْتُ وعيي كاملاً، أنزلوني إلى غرفة في الطابق السفلي. غرفة بدون نافذة أو "مَنْفَسْ" هواء. الباب، وفقط الباب، هو المدخل والمخرج الوحيد...
في صباح اليوم التالي، وبينما كنت أحاول استجماع قِواي، وإذْ بي أسمع أصوات نساء عربيات، بلَكْنة فلسطينية. بدأ الصوت يقترب أكثر فأكثر من غرفتي، إلى أن دخلت امرأتان إلى الغرفة، وبدأتا بتنظيف ومسح الأرض. قلت في نفسي: تجرأ وحدثهما، عَلَّكَ تجدِ الإجابة على أسئلتك.
- يعطيكم العافية يا صبايا!
- ألقت واحدة منهما "الأحّاطَة" 3 على الأرض، ثم التفتت الإثنتان نحوي وعلى وجهيهما علامات الصدمة: أهلينْ... مينْ إنْتِ؟ شو عم تعمل هون؟...
- أنا بدي أسألْكم، انا وين؟!
- لحظات والتقطتا أنفاسيهما وأجابتا: هون مستشفى رامبام بحيفا... "شو الظاهر كايِنْ مِتْصاوِبْ وجايْبينَكْ لهون"...
- على كل حال، "ما تِهْكَلْ همّْ"... اعتبر إنّو صار إِلَكْ أختين هون، ونحنا كل يوم رحْ نِجِي نْطُلْ عليك"، أضافت إحداهما... هكذا، أخَذْت "شْوَيِة" 4 معنويات.
ثم بدَأتْ حالتي الصحية تتحسن شيئًا فشيئًا. ومع مرور الأيام، تَعزَّزت الصداقة مع هاتين الإمرأتين، إذ إنهما كانتا تنظران نظرة إجلال وإكبار لقاطِني هذه الغرفة، لاعتقادهما بأنهم مقاتلون "خطرون"، ولهم قيمتهم العسكرية، ولولا ذلك، لما كان اليهود يُحْضرونهم إلى هنا.
وصارتا تُحْضِران لي كل يوم بعض المأكولات لِأقْتات بها: شوكولا، ليمون، معجنات... لأنني لم أكن لآكل من طعام الصهاينة وخلال تنظيفهما الغرفة، كانتا تتعمدان "اللَّوْطَعَة" 5 لكسب المزيد من الوقت والتحدث معي، وإخباري بأهم الأمور:
- كان في واحد لبناني قبلك، متْصاوب متلك، بِ هَيْدي الغرفة اسمه ابراهيم... الظاهر إنّو اليهود "مْخَصِصينْها" للمقاتلين الذين يأْتون بهم من لبنان، خاطبتني إحداهما، وهي نفسها قالت لي ذات صباح:
" مبارح شِفْنا امرأة لبنانية هنا في المستشفى"....
- مين هي؟ بْعَتولي وراها، لأحكي معها!.
خلص تكرم عينك، عبكرا منجيبها معنا.
وفعلاً، في اليوم التالي، جاءت هذه المرأة برفقتهما لزيارتي من خارج الغرفة، وسمحا لها الجنديان بالوقوف على الباب. بعد السلام، قلت لها:
- من وين إنْتِ؟
- من كوثرية السياد 6 .
- خير، شو عم تعملي هون؟
- ابني مريض وعم حَكْمو هون، وبكرا راجعة ع لبنان.
- طيب، بدي حَمْلِك أمانة. بدك تطلعي عَ ضيعتي، وتخبري أهلي إنو أنا بخير وبعدني طيب وموجود في رامبام، حرام صرلهم ١٤ يوم ما بيعرفوا عني شي.
- ايه تكرم عينك، هَيْنة.
أسبوع زمان، وطلب مني الجنديان أنْ أستحم وأن أهيئ نفسي. المحقق سيأتي ليحقق معك، وبالفعل قمت وتهيأت لأول لقاء تحقيق في حياتي.
ساعات قليلة وجاء المحقق. كان أول يهودي يتكلم معي العربية. جلس، ثم بدأ حديثه:
- الحمد لله على سلامتك، شَكْلَكْ صرت منيح ورْجِعِتْ قلَّعِتْ. نحنا عملنالك عملية بِراسك و"زمَّطْناك" 8 من الموت.
كان يحاول دائماً في كلامه إظهار الجانب الإنساني لجيش الدفاع، بهدف كسب مودتي، وفي ما بعد اعترافاتي..
وأضاف: رفقاتك، واحد مات والثاني بعدو طيب ومتصاوب، حْكينَا معه وحَكى لنا كل شيء (طبعا كان كلامه كذباً للإيقاع بي)، هلق إجا دورك، بدك تحكيلي كل شي بالتفصيل.
حمل قلمًا وورقة، وبدأَ بتسجيل كل حرف ألفظه، حتى أنفاسي كان يحصيها.
الجلسة الأولى كانت قصيرة، ودامت ربع ساعة. اقفل بعدها أوراقه وقال: اليوم مش رح طوّلْ عليك، انت بعدك تعبان. ارتاحْ هلّقْ، وانا بحكي معك غير مرة.