أنْصارِيات...لِكُلّ أمة حضارة وقضية. وهذه الأمم تسعى إلى تصدير حضارتها لباقي الأمم والشعوب. وللمفارقة، أعتقد جازمًا أنّنا لم نستوعب حتى الآن بشكل كامل قيمة قضيتنا، لم ندرك تمامًا أنها تحولت الى نهضة، بل قُلْ إنها أضحت حضارة "بأمها وبَيْها".
نعم، انها حضارة المقاومة، حضارة الجهاد، حضارة الشهداء، حضارة الجرحى، حضارة البيئة الحاضنة، حضارة الناس الصامدين، وأخيرًا وليس آخرًا حضارة الأسرى.
لماذا الأسرى؟ لأن تجربتهم من اصعب واقسى التجارب، ولأنها لم تُوَثَقْ كما وُثِّقَتْ تجارب الشهداء والجرحى. يعني، بإمكانكم القول أنهم "مغبونون" بعض الشيء، وتجاربهم جديرة بأنْ تُوَثَّق، إذ إن في توثيقها فائدة لنقل تجارب الحركة الأسيرة إلى الجيل القادم.
وعلى رأس هذه التجربة، تأتي تجربة معتقل أنصار. تلك المدرسة التي خرَّجَتْ من صفوفها نماذج وتجارب جديرة بالدرس والحفظ والتوثيق. "أنصار" الذي حوى في كنَفِه كبار القيادات المقاومة، من القومي الى اليساري الى الشيوعي، الى الحركات الاسلامية الى الفصائل الفلسطينية، وانتهاء بِرُوادِ القتال وأسياد سوح الوغى
وفي هذا السياق، سوف أبدأ- بعونه تعالى- وعبر "موقع المقاومة الإسلامية في لبنان" بالتوثيق لهذه التجربة الرائدة ضمن سلسلة حلقات، تحت عنوان "أنْصاريات"، في محاولة للإضاءة على الحركة الأسيرة خلال تلك الفترة، عبر عرض تجربة أحد الأسرى الروّاد.
أنصاريات 1: من كفرتبنيت إلى رامْبام- حيفا...
الأحد ١٣ تشرين الثاني ١٩٨٣صباحاً، اليهود "فايْعينْ 1 متل النملْ"، إنَّه بداية الأسبوع لديهم، كما الإثنين عندنا. دوريات. تبديل عناصر. وَفِدْ "مْشَرِّفْ" عالخدمة ووفد ذاهب إلى إجازته.
تخطيط على مدى أشهر. رصد متواصل لمنطقة العملية. تحضير لوجستي مكثف لتنفيذ العملية.
اكتَملت الاستعدادات، وأصبح الهدف واضحًا: تفجير عبوة ناسفة بالدورية أثناء تقدمها من الأراضي المحتلة، على طريق النبطية الفوقا2- كفرتبنيت3.
المجموعة مؤلفة من أربعة أشخاص: الشهيد أحمد حسن أمين نضر(عربصاليم 4 )، الشهيد جودت عليق (يحمر الشقيف 5 ) ، والإثنان الباقيان ما زالا على قيد الحياة.
التكتيك اقتضى أن يزرع ٣ أشخاص العبوة (الشهيدان والأسير)، والشخص الرابع يَبْتعدْ مئات الأمتار ويجلس في سيارة كي لا يلفت الأنظار، ومهمته رصد الدورية وإعلام مجموعة الزرع بوصولها. تم الإتفاق بين المجموعة المنفِّذة والراصد على "كلمة سر": "التِغْميزْ"6 بمصابيح الإضاءة عند وصول الدورية إلى نقطة قريبة..
بدأ الثلاثة العمل. "صندق السيارة مفتوح للتمويه. الشباب عامْلين حالونْ "مْبَنِشْرينْ"7 وْعمْ يْغيروا الدولاب. واحد يحفر "بالمنكوش 8 " لِزرع العبوة، الثاني يقوم بالتوصيلات الكهربائية النهائية، والثالث يؤمن ساترًا لحجب رؤية المارة عمّا يدور إلى جانب الطريق، بمساعدة السيارة التي كانوا يَتَلطّون خلفها، إضافة إلى دوره في المتابعة مع الراصد.
-"جودت"... "أحمد"... الراصد"غَمَّزِلْني". الظاهر وصلت الدورية، قال الثالث.
-يلّا يلّا، خلصنا. مْبَيِّنْ وصلتْ "السايْبِة 9 " أبْكَرْ من موعدها. ضُبُّوا العدة، واتكلوا عألله بالسيارة. وأنا "رايِحْ" لموقع التفجير عن بُعْد.
تلك كانت آخر جملة يَذْكرها الأسير، وبعدها "شعرت بهواء ساخن لفح وجهي، ولم أعد أتذكّر شيئًا".
وقتها، كان الصهاينة قد استقدموا جهازًا حديثًا لمسح الطرقات أمام دورياتهم، مهمته اكتشاف العبوات وإرسال موجات لتفجيرها تلقائيًا عن بعد. وهكذا كان. انفجرت العبوة بالشباب. إثنان استشهدا، والثالث أصيب بجروح بليغة افقدته الوعي. والراصد "دَوَّرْ" سيارته وانسحب من المكان.
هرج ومرج في مسرح العملية. الأهالي، المارة، سيارات الإسعاف تهرع الى المكان، فيُنقَلُ الثلاثة الى المستشفيات.
وبدأت من هناك رحلة الأسر...
محمود نضر
في الحلقة القادمة: فترة العلاج والإقامة في مستشفى رامبام- حيفا.
*سلسلة في حلقات عن تجربة أسير في معتقل أنصار الشهير الذي أنشأه العدو الصهيوني إبان اجتياحه للبنان العام 1982، حيث اتخذ في القرية الجنوبية "أنصار" معتقلاً كبيرًا زج فيه بآلاف الشباب اللبنانيين والفلسطينيين.
1 كلمة عامية تعني : هائجون ومنتشرون في كل اتجاه.
2 -3-4-5 قرى في قضاء النبطية.
6 كلمة عامية: إضاءة مصباح السيارة ثم إطفاؤه بسرعة مرة بعد أخرى.
7 أي أن إطارات سيارتهم تضررت.
8 المِعْوَل.
9 يقصد بها الدورية المعادية"متندّرًا".