كان يوماً من أيام شهر رمضان المبارك، ذات عام قبل تحرير الجنوب من العدو الإسرائيلي، حين مر بي عباس ليدعوني إلى مائدة الإفطار في منزلهم (قبل زواجه بسنين). عصر اليوم المحدد توجهت إلى منزلهم في حارة حريك. طرقت الباب ففتح لي الحاج الوالد أبو عباس. حييتُه ودخلتُ، ودخل خلفي مسرعًا ليتابع خبرًا تبثه قناة المنار عن اشتباكات تدور في الجنوب بين رجال المقاومة الإسلامية وجنود من جيش العدو الإسرائيلي. مضى الخبر وتُركت الشاشة لتبث نشيدًا من أناشيد المقاومة. فرك الحاج إحدى يديه بالأخرى، ثم رفعهما معًا نحو السماء، متمتمًا بدعاء لحفظ شباب المقاومة. في هذا الوقت كانت الحاجة أم عباس تنتقل بين غرفة الجلوس والمطبخ، تلقي نظرة على الطعام الذي تعده على النار في المطبخ ونظرة نحو شاشة المنار في الغرفة، داعية في رواحها وعودتها لشباب المقاومة بأن يحفظهم الله من كل سوء.
- أين عباس يا حاج؟
- اتصل قبل صلاة الظهر بقليل، قال إنه مضطر للذهاب إلى الجنوب في عمل طارئ، وأوصى بأن تأخذ راحتك معنا وكأنه موجود.
- مبتسماً: البيت بيتي يا حاج بوجود عباس وبغيابه. وأين هادي وعلي؟
- في الجنوب . لديهما عمل أيضًا.
بعد جواب الحاج علمت سبب قلق الحاج والحاجة الزائد عند ورود كل خبر جديد عن الاشتباكات. جلست والحاج والحاجة نتناول طعام الإفطار ونحن ننقل أعيننا بين الصحون وشاشة المنار لمتابعة كل خبر عاجل. بعد الساعة التاسعة، كان الوضع في الجنوب قد عاد إلى هدوئه، وتناقلت وكالات الأنباء خبر مقتل عدد من جنود العدو وسقوط عدد آخر جرحى، من دون أن تقع أية إصابة بين رجال المقاومة. اطمأن بال الوالدين إلى سلامة الأولاد، وسلامة المقاومين كلهم، لكن الذي عرفاه بعد ذلك هو التالي:
كان هادي، ابن العائلة الأوسط، في مهمة جهادية مع رفاق له داخل الشريط الحدودي حين وقعوا في كمين متقدم لجيش العدو. طلبت قيادة المقاومة من مجموعة ثانية التقدم لفك الحصار عن المجموعة الأولى، وكان من ضمن عناصر هذه المجموعة علي، صغير إخوته الذي لم يكن يعلم بأن أخاه هاديًا محاصر مع عناصر المجموعة الأولى. كذلك طلبت القيادة من مجموعات الإسناد الناري البعيدة إلهاء مواقع العدو وعملائه، باستعمال الهاونات والصواريخ كي لا تتمكن هذه المواقع من التدخل وقصف المجموعتين، وكان من ضمن عناصر الإسناد صديقي عباس، الذي لم يكن يعلم ايضًا بأن أخويه يشاركان في الاشتباكات. حين عاد أفراد المجموعتين الأولى والثانية إلى نقطة التجمع المتفق عليها مسبقًا، تفاجأ الأخوان، هادي وعلي، أحدهما بالآخر، تعانقا مطلقَين ضحكتين لفتتا أنظار المقاومين الآخرين إليهما. كان عباس قد سبقهما إلى بيروت. وحين عاد علي وهادي وحدثاه بما وقع معهما، "شامتَين" به لبقائه في بيروت. لم يتمالك عباس نفسه، فانفجر في وجهيهما ضاحكًا، قبل أن يخبرهما أنه كان في مجموعة الإسناد التي غطت انسحابهما.