مسؤول وحدة الاعلام الالكتروني في حزب الله د. حسين رحال
النصر حصيلة تضافر شروط عديدة، بعضها موضوعي ومادي وبعضها معنوي ونفسي وثقافي، تتمحور كلها على تجميع فرص النجاح والصمود لأي أمة وجماعة في حالة صراع مع عدو أجنبي.
وعلى مدى الصراع العربي الإسلامي مع العدو الصهيوني، كان هناك اخفاقات كبرى ونجاحات عديدة، إلا أنّ المنحى البياني أخذ نسبياً اتجاه تتالي الهزائم الاستراتيجية الى حد تكريس الكيان الصهيوني قوة كبرى في المنطقة.
جاء انتصار المقاومة في العام 2000 وكأنه سباحة في عكس التيار، وقد حاول المفكرون الصهاينة وأساطين الدعاية والحرب النفسية بينهم إضفاء مسحة استثنائية على هذا النصر، بمعنى جعله استثناءً لا قاعدة في حركة الصراع، خوفاً من انعكاس الهزيمة الاسرائيلية على مستويين:
1 ـ مستوى الوعي والثقافة الإسرائيلية، حيث يشكل الانتصار اللبناني تحطيماً لوهم العظمة الصهيونية وصورة السوبرمان الإسرائيلي المسيطر على محيط من الجهلة، العجزة، أصحاب القدرات البدائية من العرب، كما تصورهم الثقافة العنصرية الصهيونية، أعداد لا فاعلية لها وأمة من الرعاع الجهّل التي لا يمكنها الانتصار بسبب تخلف عقلها وثقافتها وقدرات إنسانها غير المتكافئة مع الدولة الصهيونية، رمز الغرب ورأس حربته في الشرق الصحراوي.
2 ـ على مستوى الشعوب العربية التي قيل لها من قبل حكامها الخليجيين والدكتاتوريين المدعومين من الغرب، أنّ مواجهة إسرائيل غير ممكنة فهي مدعومة من الأميركيين وإن قاتلنا إسرائيل، هذا يعني قتال اميركا، وهذا ما لا طاقة لنا كعرب به، وعلينا أن نذهب الى السلام بالشروط الإسرائيلية لأننا مهزومون قبل وبعد أن ندخل في المعركة.
على المستويين ثمة صراع حول الوعي والإدراك، حول صورة العربي وصورة الصهيوني؛ كل منهما عن نفسه وعن عدوه، صورة يراد لها أن تكرس في الثقافة، لتصرف في السياسة والاستراتيجية، لكي يُبنى على أساسها نظام إقليمي واضح المعالم تكون فيه "إسرائيل" السوبرمان وبقية البلدان العربية مجرد عدد من الدويلات التابعة.
كان الإسرائيلي يتحضر لإثبات نظريته العنصرية هذه لمدة 6 سنوات، جهد فيها لإعداد العدة العسكرية والسياسية برعاية أميركية، وعندما حدثت حرب تموز 2006 كان يريد أن يكرس وهم التفوق في الوعيين الصهيوني والعربي متوجاً ذلك برمز جديد يدحر رمز انتصار العام 2000 وهو بيت العنكبوت.
رمزية بنت جبيل المحررة وخطاب الأمين العام لحزب الله في أيام التحرير، أرادت دعاية العدو أن ترد عليه
بقية القصة معروفة في لبنان حيث قتل وجرح العديد من أفراد القوة الصهيونية المهاجمة وفشل العدو في احتلال بنت جبيل في إطار فشل أوسع، هو فشل العدوان في اخضاع المقاومة طوال 33 يوماً، وصمود عيتا الشعب وبنت جبيل والخيام وصور وبقية المدن والبلدات الجنوبية.
كان الاخفاق مدوياً لأنّه كرّس في شهر ما كانت المقاومة جهدت 18 سنة في السابق لتكريسه. والفشل العسكري هنا كان له دلالاته المعنوية والسياسية والاستراتيجية.
عادت مشكلة الوعي الى الواجهة: ما هو الخلل في العقل الصهيوني، هل هو سياسي أم ثقافي، أم نفسي أم اجتماعي؟.
لم يعد السؤال الاشكالي لماذا لدينا (كصهاينة) تفوق دائم ونكسات عابرة؟ بل أصبح كالتالي: ما هو الخلل البنيوي في الفكر والمجتمع والجيش والمؤسسة السياسية الصهيونية وكيف نعالجه؟
إذن بات الإسرائيلي مقتنعاً بعكس الصور التي كان يحملها عن نفسه: أنه كائن قابل للخسارة، بل هو من الآن وصاعداً أقرب الى الخسارة والفشل وليس التفوق، انهارت المرتكزات الفكرية لهذه الصورة العنصرية لأنها تتضمن دلالات عديدة حول الموقف من الإنسان العربي؛ الموقف الغربي ـ الصهيوني الفوقي والموقف العربي ـ الاسلامي الدوني، تقوم على كون الاسرائيلي ممثلاً للحداثة الغربية في الفكر والتخطيط والتنفيذ، ليس على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى المؤسسة السياسية والعسكرية (الجيش) وعلى رأسها الدولة.
كل المقاربات الإستشراقية العنصرية الغربية قائمة على مسلمة ضمنية، تزعم الفارق النوعي في العقل والثقافة بين متقدمين غربيين، ومتخلفين بدائيين من أفريقيا وآسيا والعالم الإسلامي (العالم الثالث).
ظن التكبر الصهيوني أن ليس هناك في العالمين العربي والإسلامي عقل حديث يستطيع مواجهتهم، أما لبنان فهو بلد فيه سياحة وشعر وطبخ، ليس وطناً برأيهم وليس فيه سوى قشور حداثة ومظاهر أما اللب والقلب فهو شرقي متخلف.
ما حصل في تموز 2006 هو انقلاب الوعي حيث استطاعت المقاومة تقديم نموذج للحداثة اللبنانية والعربية قائم على فعالية الإنسان والمؤسسة (حزب الله) في خوض صراع استراتيجي سياسي وعسكري ونفسي متعدد المستويات.
الصراع هنا عبارة عن صراع إرادات وعقول ومؤسسات واستراتيجيات ودمج بين القوى من أجل الصمود والنصر. شكلت حرب تموز ساحة اختبار بين حداثة اللبناني والعربي ممثلة بحزب الله وحداثة الغرب الاستعماري وترسانته العسكرية ممثلاً بالجيش الصهيوني، إنه اختبار للذكاء الانساني الحديث.
كلنا يعرف أن الانسان الحديث ولو كان فئة قليلة يتغلب على الآخر ولو كان فئة كبيرة. ما حصل في حرب تموز انتصار للوعي العربي في ساحة المعركة وفي ساحة التفكير، ظهر فيه أن اللبناني يستطيع أن ينتصر إذا اعتمد على نفسه، والعربي قادر على الانتصار في مواجهة الغربي.
من هنا انعكاس النصر على كل عربي مهما كان انتماؤه السياسي والثقافي، العربي أكد صورته عن نفسه الواثق بقدراته وعقله، وصورته عن العدو القابل للخسارة والهزيمة.
أيضاً العدو الاسرائيلي كان يشعر أن وعيه أصبح مختلفاً؛ صورته عن غربي خائب متقبل لإمكانية الخسارة لأنه ليس سوبرمان، هو إنسان عادي يمكن قهره، وفي المقابل عدوه العربي إنسان حقيقي ليس بدائياً بل إنسان فعال ند متكافئ.
نصر تموز وثقافة المقاومة في لبنان هي انتصار ثقافي وفكري ونفسي قبل أن يكون مجرد انتصار عسكري استراتيجي.
المصدر: مقال من مجلة "رسالة المعلّم"