من " جنى العمر" رسم أبناء القرى الحدودية، صورة عدوّهم المهزوم في أيار وتموز، منازل فخمة وقصورًا، أو حتى منازل متوسطة الحال أو عادية، المهم أنهم شيّدوها على طول الحدود، ليعبّروا بذلك عن ثقتهم بأن "عهد الهزائم قد ولّى"، إلى غير رجعة، و"لأنهم إذا قصفوا سنقصف...".
داني الأمين
قد لا يبالي "الانهزاميون" بهذا المشهد الحيوي، فيما هو يعبر في المقابل عن لامبالاة أهالي القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة بـ«جيرة الاحتلال» الذي يتحصن على تماس منازلهم وأرزاقهم في بروج مشيدة. حتى إنّ شكري قاسم، ابن بلدة حولا المقيم على بعد أمتار من موقع «العبّاد» الصهيوني، يؤكد أن «ما يزعج الأهالي، لا الجنود الإسرائيليون المتوارون داخل هذه الحصون، بل تلك الأصوات النافرة المطالبة بنزع صمام الأمان لدينا، وهو سلاح المقاومة، مستهدفة سرّ وجودنا وصمودنا هنا». تعود الذاكرة بمحمد صولي ،ابن الطيبة، إلى اجتياح 1982 وما سبقه من اعتداءات يومية فيقول: «عندما يتكلّم أحد ما عن نزع سلاح المقاومة، استرجع تلك الأيام التي كنا فيها عزلاً في وجه القتل والتشريد وهدم البيوت وتخريب الأرزاق، يومها هاجر معظم أبناء المنطقة للإقامة في صيدا وبيروت هرباً من آلة الدمار الصهيونية». بالنسبة إلى محمد، فإنه ليس بإمكان من لم ينس بعد «أصوات الدبابات الإسرائيلية، متداخلا بأصوات هدم المنازل وصراخ الأطفال والنساء، أن يفهم كيف ترتفع أصوات لبنانية لتطالب بنزع هذا السلاح. كنت حينها طفلاً، وكنت أسأل نفسي: أين الجيش، أين السلاح الذي يجب أن يحمينا؟».
أيضًا وأيضًا، يستذكر شادي كيف كان والده يحرق الصحف الوطنية خوفاً من اعتقاله أو نسف منزله في حال دخل الإسرائيليون ووجدوها. وإلى عمق الذاكرة الأليم يعود بديع قطيش، إلى العام 1948، تاريخ مجزرة حولا الشهيرة، التي ذهب ضحيتها 90 شهيدًا، على يد العصابات الصهيونية. يروي بديع كيف كانت تلك العصابات المسلحة، والمجهزة بالدبابات والسلاح الثقيل تستطيع بكل ثقة أن تقطع مسافات طويلة من الأرض الخلاء، لتنقض على القرى الحدودية، من دون خسائر تُذكر في صفوفها. لم يُرمَ هؤلاء الغزاة يوم مجزرة حولا بحجر. كان غزوًا سهلاً، ومأساة عظيمة لنا، ويقارن بين الأمس واليوم فيجد أن تلك القرى الوادعة، التي خرجت المقاومة من عمق معاناتها وتضحياتها، هي من زحفت باتجاه الحدود مع الأرض المحتلة، وأنشأت منازل بالمئات على أبواب مستعمرات العدو، كما هو الحال – مثلا - في بلدات مركبا والعديسة وكفركلا وحولا وميس الجبل وبليدا. تبدل الحال كثيرا -يقول بديع: فالعدو اليوم أصبح هو المضطر للدفاع عن نفسه وحماية مستوطنيه إذا حمي الوطيس.
في منطقة مرجعيون، يستطيع المراقب أن يلحظ ولادة قرى جديدة بكاملها، لم تكن موجودة ما قبل التحرير، أو بعده بوقت قصير. عشرات الأبنية أُنشئت على الحدود بعد حرب تموز. يقول خليل رمال ( العديسة): "هناك حوالي 100 منزل تم بناؤها في خراج البلدة على الحدود تمامًا، حتى أن أسعار الأراضي ارتفعت بشكل ملحوظ، وتلك الأراضي المطلة على المستعمرات، هي الأكثر طلبًا والأغلى اسعارًا". ومعظم أصحاب هذه المنازل، هم من أبناء البلدة الذين نشأوا خارجها، ولكنهم يحرصون على تمتين ارتباطهم بجذورهم، فضلاً عن وجود مشترين جدد من خارج المنطقة أساسًا، حيث ينتصب قصران مقابل مستوطنة المطلة، تعود ملكيتهما لشخصين من عائلتي العيتاني والحص البيروتيتين، جذبتهما الطبيعة الخلابة التي تتمتع بها المنطقة.
على طريق عام مركبا- حولا، انتشرت المنازل بالعشرات أيضًا، وجميعها ملاصق للحدود، وبعضها ملبّس بالحجر الصخري والقرميد الأحمر. ويلفت حسين الأشقر إلى "أن هناك منازل فخمة جدًا، كلّفت أصحابها مئات الآلاف من الدولارات. وحركة البناء متواصلة حتى وصلت حدود 600 منزل بعد التحرير، واستمرت حركة البناءعلى حالها بعد حرب تموز، وخاصة تلك الملاصقة للحدود، في تحدٍ يعيشه أبناء هذه القرى ضد وطأة الاحتلال وتهديده وعنجهيته".
وفي بلدة حولا ، نشط تشييد المنازل قبالة موقع العبّاد الشهير، وأصبح هناك حي بكامله يسمى "حي القصور"، ملاصق للحدود تمامًا، ومن يريد موقعاً جذاباً لمنزله عليه أن يشتري عقاراً قرب موقع "العبّاد"، فالمكان مرتفع ومطلّ على سهل الحولا وبلدة هونين وسهل الخالصة وكريات شمونة... حتى ان هناك من شيد منزله مقابل مستعمرة المنارة، في منطقة "شبه مقطوعة" وخالية من أية أبنية أو بنى تحتية أساسية. هذا ما يدفع إلى تحسس كم كان أهل هذه القرى متلهفين إلى تحريرها حتى يعودوا إليها ويعمروها من جديد. ويعلق محمد صولي بالقول: «طبعًا كان هذا حلمًا، ولكنه لم يكن ليتحقق لولا وجود السلاح الذي كان عماده إرادة الإنسان في هذه المنطقة، وفي كل مكان عرف الاحتلال القاسي والمرير».
وباتجاه الجنوب أكثر فأكثر، تصل إلى بلدة ميس الجبل، التي أصبح قصدها ضرورياً لكلّ من يريد بناء منزله، وكذا تجهيزه، من أبناء قرى وبلدات مرجعيون وبنت جبيل، وحتى من مناطق أكثر بعدًا جغرافيًا. إذ شهدت البلدة، الملاصقة لحدود فلسطين المحتلة، بعد التحرير ازدهارًا كبيرًا في افتتاح المؤسسات التجارية، خصوصًا تلك المتخصصة في بيع المفروشات والأدوات المنزلية، وأصبحت البلدة عامرة بأهلها، الذين عادوا إليها بالمئات، وكذلك بالوافدين إليها يوميًا للتبضع والتسوق، "في ظل شعور بالأمان لطالما غاب عن هذه المنطقة، واستعادته بكل ثقة بفضل المقاومة وجهوزية شبابها، للدفاع عن البشر والحجر"، يقول محمد صولي.