ميساء إبراهيم
هل تعلم أن الحفريات الإسرائيلية أسفل المسجد الأقصى تصل إلى 14 متراً؟ هل تعلم أن الاحتلال يبني تحت المسجد المبارك مدينة كاملة تتسع للملايين؟ هل تعلم أن الاحتلال يبني أنفاقاً من سلوان وغيرها من البلدات والمدن إلى الأقصى؟ هل تعلم أن كل الآثار الموجودة من أحجار وأتربة تودع في المتاحف الإسرائيلية؟ هل تعلم أن مئة وأربع كنس يحيطون بالأقصى من بينها أربع كنس كبرى؟ هل تعلم أن العمال الفلسطينيين منعوا من القيام بأعمال الترميم في الجهة الجنوبية الغربية للمسجد؟ هل تعلم ما يتعرض له الخطباء وطلبة العلم؟ هل تعلم ما يقوم به المستوطنون حين يقتحمون المسجد الأقصى من حلقات رقص وموسيقى صاخبة؟ هل تعلم أن عدد المستوطنات في القدس وصل إلى 29 مستوطنة؟ هل تعلم أن عدد سكان القدس مليون نسمة من بينهم 750 ألف إسرائيلي و250 ألف عربي؟ هل تعلم أن التطهير العرقي لم يتوقف يوماً في المدينة المقدسة؟ هل تعلم أن ميزانية القدس 400 مليار دولار أي ضعف ميزانية الدول الأوروبية؟ هل سمعت بالعروض التي تنهال على المقدسيين للحصول على الجنسيات الكندية والأسترالية وغيرها بالإضافة إلى مبلغ 25 ألف دولار؟ هل تعلم أن الهوية الإسرائيلية التي يتم إعطاؤها مؤخراً للفلسطينيين ممهورة بعبارة مقيم مؤقت بحيث يكون الفلسطيني معرضاً للتهجير في أي لحظة؟ والأهم هل تعلم أن القدس في ربع الساعة الأخير من عملية تهويدها بالكامل؟
هذا هو حال القدس اليوم، حزينة شوارعها ومآذنها وبياراتها، تنتظر أن تكون خبراً يتصدر أخبارنا، وشعاراً يعلو فوق شعاراتنا، وعنواناً في زحمة مسلسلاتنا، ومشروعاً قومياً ووطنياً في مواجهة مخططات الاحتلال العنصرية والتهويدية.
يذكر أمين عام الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة المقدسات د.حنا عيسى كيف أنه في إحدى المرات قرأ جميع الصحف في إحدى الدول العربية ولم يجد بين صفحاتها خبراً واحداً عن القدس، يتذكر كيف أن أربعين إلى خمسين وسيلة إعلامية غير عربية كانت تتواصل معه في السابق للوقوف على ما يجري في القدس سيما وأن الهيئة مختصة بكافة المواقع في المدينة المقدسة في الجانبين الإعلامي والقانوني، فيما العدد اليوم يترواح من سبع إلى عشر وسائل إعلامية فقط. يرى عيس أن الإعلام العربي يعاني حالة احتضار إزاء القدس والقضية الفلسطينية، منتقداً تناول القضايا القديمة واستخدام العبارات غير العلمية وغير الدقيقة على نحو خطير كأن يروّج لتدنيس المستوطنين للمسجد الأقصى على أنه حجّ لليهود إلى المسجد. "المسلمون هم من يحجون إلى المسجد الأقصى وليس اليهود" يوضح عيسى منتقداً تقصير الدول العربية والإسلامية في واجباتها تجاه "الأرض المقدسة ومهبط الديانات" التي أصبحت اليوم في آخر الاهتمامات على المستويات كافة.
ولعل تجربة المخرج باسل الخطيب تؤكد هذا الواقع، تجربة امتدت لعشرين عاماً رسخت لدى المخرج الفلسطيني السوري قناعة بأن "طرح أي فكرة تتناول القدس أو القضية الفلسطينية ممنوع، وكأن هناك قرار ضمني بعدم مقاربة هذا الموضوع". يروي كيف أن أصحاب القرار في شركات الإنتاج والمحطات كانوا يرفضون كل اقتراح في هذا المجال رغم أن المقاربة غالباً ما تكون للجانب الإنساني من المأساة، مأساة الإنسان الفلسطيني الذي انتزع من أرضه.
واقع مؤلم يرى فيه مخرج "أنا القدس" وغيرها من الأعمال التي تحكي القضية الفلسطينية ورموزها والتي جرى عرضها بشكل استثنائي، أنه مؤشر على عدم عافية هذه الأمة، فبالنسبة إليه "علاقة الأمة العربية والإسلامية تجاه ما يحدث في القدس هو المؤشر الفعلي على عافيتها أو عدم عافيتها"، معتبراً "أن أعداءنا الذين خططوا لأن تغيب القدس عن دائرة اهتمامنا اليومي نجحوا في ذلك". لكن يبدو أنهم لم ينجحوا في جعل الخطيب يتخلى عما يعتبره موقفاً وطنياً وأخلاقياً لا مجرد عمل فني.
"بيني وبين القدس قصة عشق ولدت حين كنت أحضر لمسلسل أنا القدس، صحيح أنني لم أزرها لكنني أعرفها حارة حارة وزقاقاً زقاقاً" يقول الخطيب، واعداً بفيلم سينمائي هذه المرة يحكي أحداثاً جرت مع شخصية حقيقية في القدس يحمل عنوان "حياة".
الإعلامي الفلسطيني ناصر اللحام مواكب دائم ليوميات القدس والمقدسيين، واقعها اليوم يوصفه على الشكل التالي "القدس في صف الانتظار منذ مئة عام، راهنت كثيراً أن يأتيها النصر من بغداد أو الجزائر أو العواصم العربية الأخرى، ظنت أنها ستحرك الجيوش العربية لإنقاذها لكن ها هي اليوم تواجه واقعاً معقداً". يتوقف اللحام عند ما أسماه "إعادة تشكيل الوعي العربي بشكل خطير ومقصود ومتعمد" من خلال أداء وسائل الإعلام العربية إزاء القدس وما يجري عليها. يورد مثالاً كيف أن الفضائيات العربية تكتفي بنقل الصلاة من المسجد الأقصى مختصرة القدس كلها بهذا المشهد، معتبراً أن الكارتيلات الإعلامية عملت بذكاء على مدى السنوات الماضية، وهنا يذكر برسالة كتبتها مجموعة من المثقفين والمفكرين والأسرى المحررين للدول العربية قبل عشر سنوات يحذرون فيها من أن الاحتلال يبني في القدس عاصمة اليهود والمستوطنين . و يطلبون تقديم مشاريع دعم للقدس من بينها بناء مدارس حيث يمنع على الفلسطيني بناء مدارس وجامعة ومسارح وخط مواصلات في حين تقيم إسرائيل خط مترو في القدس الشرقية نفسها، إلا أن ما تمت الموافقة عليه آنذاك كان "موائد الرحمن". يتساءل ناصر اللحام غاضباً هل الشعب الفلسطيني بحاجة إلى طعام؟ هل نحن بحاجة إلى موائد الرحمن؟ نحن بحاجة إلى سيوف الرحمن وجيوش الرحمن ورجال الرحمن.
هذه الحقيقة على قتامتها لا تؤثر بالمقدسيين والشعب الفلسطيني عموماً، يروي اللحام كيف تنهال العروض على المقدسي من أجل القبول بالجنسية الأسترالية أو الكندية فضلاً عن مقطوعة بقيمة 25 ألف دولار دون أن يكون المقابل مغادرة القدس، لكنه يرفض مؤكداً أنه لن يغادر أرضه. لسان حال المقدسيين يعبر عنه اللحام قائلاً "سنرضى بسماع التنظيرات والخطابات على الشاشة لكن القدس ستبقى سيدة نفسها، هي التي تقول وتأمر وتزجر وهي التي تقرر، وكما قررت تاريخياً ستقرر في المستقبل، والحتمية التاريخية تقول إنها ستبقى عربية".
لماذا؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، لماذا غابت القدس عن يومياتنا؟ لماذا لا تخترق فضائياتنا؟ لماذا يتم تجاهل معاناتها؟
يجيب عضو المجلس الوطني الفلسطيني صلاح صلاح بأن هناك مجموعة من الأسباب لهذا الواقع المؤلم حيث تبدو القدس وقدسيتها ومكانتها مجرد لفظ فارغ من أي مضمون أو التزامات، من بينها: الإنشداد لصراعاتنا الداخلية حيث نجح أعداؤنا وكل المتآمرين علينا بتمزيق المجتمع العربي ليدخلونا في صراعات لا حدود لها ولننسى أن لدينا عدواً مشتركاً. خلق عدو آخر هو إيران على الرغم من كونها البلد الوحيد الذي طرد السفير الإسرائيلي وسلّم السفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
محاولة تشويه صورة الإسلام على يد قوى إسلامية ليس لها علاقة بالإسلام علماً أن الولايات المتحدة رصدت على مدى سنوات ملايين الدولارات لتحقيق هذا الهدف.
هذه الصورة المشوهة يقول صلاح صلاح ساهمت في تعميق الصراع الداخلي فغابت القدس عن دائرة اهتماماتنا، متسائلاً ماذا تعني فلسطين اليوم لقطر والسعودية مثلاً في وقت لم يبحث الوفد العربي مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري موضوع القدس والتهويد والجدار العنصري بل على العكس لبى طلب كيري بالضغط على الفلسطينيين من أجل استئناف المفاوضات التي تعطي مزيداً من الوقت للعدو الإسرائيلي لإكمال مشروعه بإقامة دولته على كل فلسطين.
ولكن يرى صلاح صلاح أن غياب القدس، عن الاهتمام الرسمي العربي لا يعني غيابها عن وجدان الشعوب العربية، كفلسطيني لا يلوم الشارع العربي حين تغيب القدس عن شعاراته وتتقدمها مطالب حياتية واجتماعية واقتصادية، فالقدس تبقى حاضرة بنظره في أي حراك ضد انظمة تواطأت وتآمرت على القضية الفلسطيني وأي تغيير لهذه الأنظمة خدمة للقضية الفلسطينية.