فاطمة سلامة
سبع سنوات مرت على الإنتصار الإلهي. وشعب المقاومة هو هو. لا مكان للضعف في قلبه ولا الهزيمة. من مدرسة سيد المقاومة كانت البداية. استظلوا بعباءته من كيد الأعداء. ومع شيخ الجنوب حفطوا الوصية بالدماء. ليكملوها مع السيد الأمين على الأعناق والأرواح. وليرتدوا من أجسادهم جداراً من الرفض والصمود أمام العدو الصهيوني. هذا الأخير الذي تراجع في تموز 2006 وما قبله آخذاً معه ذيول الخيبة والهزيمة.
هو شعب المقاومة لم يطلق عليه السيد "أشرف الناس" عبثاً. أطلقها بروحه قبل لسانه لأنهم حقاً أشرف الناس. في حرب تموز وتحت أصوات الرصاص. لم يهن أبناء هذا الشعب ولم يحزنوا. إنهم الأعلون. حفروا بصمودهم وتضحياتهم ووجعهم للعالم حكاية قل نظيرها. بل لا مثيل لها.
أطفالهم شبُّوا على مسؤولية تحرير الأرض. شبانهم رفاق الجعبة والسلاح. شيوخهم مذ كانوا صغاراً وهم يحملون بين أشفار عيونهم وعداً وأملاً بغد حالم. أما نساؤهم فحدث ولا حرج. زينبيات فاطميات دفعوا بأبنائهم الى ساحات الجهاد. لم يتوانوا يوماً عن خدمة هذه المسيرة. فماذا نقول في حضرتهم وكل الكلمات تؤدي الى حيث تمتزج البدايات مع أفق النهايات. إنهم حقاً أشرف الناس.
تسترجع الحاجة زينب ذكرياتها المنسوجة على ضفاف قلبها. وهي التي عاشت أصعب اللحظات في حرب تموز. تقول بفخر " صمدنا في منزلنا تحت أصوات الطائرات، وألسنتنا تلهج دعاء لنصرة حماة الديار". اشتدت وتيرة القصف تتابع الحاجة زينب ولم أغادر أصريت على البقاء". فهنا أرضها ورثت ترابها المجبول بذكريات أجدادها. وهنا وطنها ومسقط رأسها ومن بعده لا حياة.
تشبث الحاجة زينب بالصمود وحلمها بالبقاء لم يصمد. اضطرت بعد ثماني أيام من القصف والدمار الى ترك منزلها في سلعا رأفة بأحفادها الصغار. تقول "نزحنا الى المدينة ولكن بقي اللوم رفيقي. لماذا تركت الأرض وأنا لم أتركها طوال سنوات الحرب الماضية".
ألم الحاجة زينب وهي أم الشهيد حسن لم يخمد. بقي طوال الحرب. تمنت لو أنها تقدم للمقاومة شيئاً غير الدعاء والصلاة لنصرتهم. تستدير المرأة الستينية ملقية برأسها على كتف الماضي القريب. تستذكر الإنتصارات المجبولة برائحة العز والعنفوان. تقول "33 يوماً من القصف والتدمير اجتمعت فيهم أمة الكفر علينا. ولكن القلوب المؤمنة لم تملك الشك يوماً بنصر الله. كان الأمل بالنصر حليفنا الدائم الى ساحات التهجير. فكيف ان رددته شفاه صدق أمينة لم تنطق الا بالحق. كان وعد السيد رفيق الدرب وأنيس النفوس. أتى اليوم الموعود. عدنا الى الديار مرفوعي الرؤوس. ولسان حالنا يردد "إن ينصركم الله فلا غالب لكم"".
إنهم حقاً "أشرف الناس". ما ترويه أم الشهيد يردده أبو قاسم، أيام الحرب بنظره ليست سوى محطة حولت وجه العالم. يتمنى أبو قاسم وهو أب لأربع فتيات لو أنه رزق مثلهن فتيان كي يسلكوا طريق الجهاد. طريق "ذات الشوكة". سبيل من حقق الإنتصار في تموز وقبله أيار وفي كل يوم ولحظة نعيشها. سبيل أولئك المرابضون فوق التلال والجبال. المتربصون لأي اعتداء يقض مضاجع الآمنين.
يروي أبو قاسم حكايات تموز. يبين كيف كان كل منزل في الجنوب مقاومة فعلاً وقولاً. يقول "عقيدة الامام الحسين (ع) زُرعت في قلوبنا وهذا الطريق لن نتراجع عنه. هو طريق الصمود إما العيش بكرامة وإما الشهادة".
يستذكر أبو قاسم كيف وقف شعب المقاومة فوق بيوتهم المهدمة. كيف أغمضوا جفونهم على دمعة لو زرفت لحفرت أخاديد من الوجع العميق على نياط القلب. كيف لا وهي المنازل التي اختصروا فيها أجمل الذكريات. إلاّ أنهم وبلحظة القهر هذه تذكروا تضحيات المقاومة. تلمسوا بعضاً منها. والبعض الآخر يختبىء على الحدود. وفي بطن الأرض. سارعوا الى القول "بيوتنا وأرواحنا وكل ما نملك فداء للمقاومة وسيدها وشبابها".
احتفال النصر في "14 آب"
يعود أبو قاسم الى ساحات التهجير. هناك حيث عاش الجنوبيون في غربة. علموا مسبقاً أنها ذات عمر قصير. فمن خلق في هذه الأرض اعتاد على الإنتصارات. صارت جزءاً من هويته. يقول ابن مركبا "استقبلنا آب ونحن بعيدون عن أرضنا. وكان اليقين بأن أيلول لن يمر إلا ونحن في أحضان ترابنا التي نشتم منها رائحة العز بفضل "رجال عاهدوا الله"".
يتنقّل الحاج أبو علي بذاكرته بين حرب تموز وعرس آب. وهو الرجل المسن الذي أبى أن يترك الأرض للحظة طيلة 33 يوماً من الحرب التي مضت. ملامحه الهرمة تأبى إلاّ ان ترسم "أيقونة" النصر. وهو الرجل "العنيد" المتشبث بأرضه. أقسم على نفسه أن لا يترك تلك الأرض التي حولها أبطال المقاومة الى مقابر للغزاة.
بنبرة حدة يقول الحاج أبو علي "أرسلت أولادي وأحفادي برفقة كبيرهم الى المدينة. وبقيت هنا في بنت جبيل أستيقظ على حسيس المجاهدين. أحتار كيف أوفهم حقهم وهم خفيفو الظل يتنقلون برمشة عين. يخافون علينا وقلوبنا عليهم". يقول" أبيت إلا أن أبقى في أرض أجدادي أموت هنا وأحيا هنا ولا أتركها حتى آخر نفس في عمري". إن هذه الأرض تعني للحاج محمد الكثير. هي روحه التي لو طلع منها لم يعد للحياة مكاناً في كيانه.
حتى الطفولة تروي حكايا تموز. وهي لا مكان للمبالغة بين سطورها. تسرد منار ببراءتها بعضاً من روايات الحرب التي عاشتها. وهي من كانت في بداية العقد الثاني من عمرها. تعصر ذاكرتها فتستلهم منها لحظات الخوف والرعب الممزوجة بالدعاء للمجاهدين. وهي ابنة ذاك المنزل الذي علمها أننا بكل ما نملك فداء لخط المقاومة. تقول " تركت منزلي في جويا. غرفتي. لعبتي. وكُلني ثقة بأن العودة قريبة بفضل شباب يدافعون عنا بأهداب عيونهم".
هؤلاء هم أبناء المقاومة. أطهر وأشرف الناس. سلكوا بصمودهم ودعائهم وتضحياتهم طريق "ذات الشوكة". عبروا بألمهم وخوفهم وقوتهم فوق عروش الطغاة. علموا تموز وبعده آب ألف حكاية وحكاية. كانت الشهادة معراج المخلصين. ردد أبطالها في السحر وآناء الليل عبارات لا يفهمها الا المتعالين عن الجراح. ولسان حالهم "لا مكان للهزيمة بيننا".