أمير قانصوه
انه بئر العبد، أحد أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت.. الحياة عادية وشجرة زرعها أطفال حديثاً هناك، يريدون القول أنتم تقتلون ونحن نزرع الحياة.. الشجرة هي لتخليد ذكرى ضحايا شهداء سقطوا قبل ثلاثة أجيال تقريباً.. إحياء أبناء المنطقة لهذه الذكرى يؤكد أن ما حدث ذلك اليوم حفر عميقاً في قلوبهم وذاكرتهم.. العلامة السيد محمد حسين فضل الله بين يدي ربه.. لكن المجرم طليق.. ولا أحد يوجه له أصابع الاتهام. ربما هذا ما يريدونه.. القصاص للمجرم.
ظهر يوم الجمعة الثامن من اذار/مارس 1985، ينفر المؤمنون من مسجد الامام علي الرضا في بئر العبد، بعد أدائهم صلاة يوم الجمعة.. كل الى بيته.. متجره، عمله.. النسوة اللواتي أدين الصلاة عقب الصلاة المخصصة للرجال، لم يكن يدركن أن ما ينتظرهن هو وحش القتل.. الذي سيقطع عليهن طريق عودتهن الى أولادهن وذويهن...
كان الانفجار الكبير الذي أريد به وقتها رأس العلامة السيد محمد حسين فضل.. انتقاماً من الامام المقاوم المتوثب دائماً لمواجهة خطط الاستكبار وعلى رأسه أمريكا وزملاؤها والتابعون من عملائها العرب أو المحليين. هو الهدف لكن لله مشيئة أخرى كما يعتقد الكثير من مريدي السيد فضل الله..ومن شهدوا تلك الواقعة.
نجا السيد.. بمشيئة الله سبحانه وتعالى وببركة امرأة مؤمنة أصرت على توجيه سؤال له، فأخّرته عن موعد الخروج الى الفخ. ولم يصل في الوقت المحدد لميقات المذبحة التي تريده ضحية لها وكل من كان عابراً طريقه.
يروي شهود نجوا من المذبحة أن أشلاء النسوة والرجال الذين وقعوا ضحية الانفجار اختلطت بقطع الحديد والاسمنت .. حتى أن حجم الانفجار الصاعق دفع برجل كان يعبر الطريق على مسافة بعيدة نسبياً الى الهرولة باتجاه الشرق متخطياً السواتر والحواجز التي كانت تقيمها الميلشيات المتقاتلة بين شرقي بيروت وغربها.. فاستقبله أولئك الذين كانوا في الطرف الثاني مشفقين عليه وأعادوه فوراً الى الجهة المقابلة. وروت إحدى النساء وهي نجت بأعجوبة بعد سحب جسدها من بين القتلى الى براد إحدى المستشفيات في الضاحية الجنوبية لبيروت.. ليُكتشف لاحقاً أنها ما زالت تنبض بالحياة.. تقول إنها رأت الموت بعينيها، وأن الجحيم قد حط فجأة ليقطع عليها دربها الى منزلها ويصيبها بجروح وندوب لم تشف منها الى حين رحيلها عن الحياة.
من نفذ مذبحة بئر العبد؟
من نفذ تلك الجريمة المروعة ميدانياً.. قد نال قصاصه في حينها.. لكن هناك مجرمون لم ينالوا العقاب، وبقوا طلقاء. الأمر غير مستغرب، فالاستخبارات الأميركية وأجهزتها العاملة كانت هي من خطط وجند وأشرف على التنفيذ لأهداف تخدم الاجندة السياسية والأمنية للادارة الأميركية، وغير بعيدة عن الانتقام للتفجيرات التي واجهت قوات المارينز عندما غزت بيروت مطلع الثمانيات. أما الشريك الثاني للادارة الاميركية في العملية فقد كان جهازاً أمنياً عربياً، أخذ على عاتقه تقديم اعتماد مالي مفتوح، وذلك بهدف لجم الصعود السياسي الشيعي على الساحة اللبنانية والتخلص من أحد رموزه الكبار السيد فضل الله.
هكذا التقت المصالح الأمنية الأميركية مع المصالح العربية ووفرت كل ما يساعد في تنفيذ الجريمة من ألفها الى يائها.
هذا الأمر ليس من وحي الخيال لكاتب عاصر تلك المرحلة وقابل العديد من الشهود والناجين من المجزرة أو الذين عاصروها سياسياً ووقفوا عند تفاصيلها وأهدافها الاستراتيجية.. فالقتل ليس وحده هو الهدف انما السيد فضل الله. لذلك كانت نجاته هي محصلة الفشل الذي واجه المنفذين والمخططين والممولين.
يقول عمر العيساوي في حلقة خاصة له من الوثائقي الشهير "حرب لبنان" الذي أعده وبثته قناة "الجزيرة" القطرية "رد خصوم إيران بانفجار مدمر في ضاحية بئر العبد ذات الأغلبية الشيعية استهدف الانفجار السيد محمد حسين فضل الله وهو رجل دين شيعي أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب الزعيم الروحي لحزب الله، رغم نفي فضل الله لأي علاقة رسمية له بالمنظمة، نجا فضل الله من الانفجار، الذي أودى بحياة أكثر من ثمانين شخصاً، وأصاب ما يربو على مائتين".
الى حد هنا قد يبدو الأمر عادياً في سرد وقائع الانفجار أما اللغز الذي لم يسلط الضوء عليه كثيراً أو لم يسع أحد الى فكه فهو من هم "خصوم ايران" الذين نفذوا تلك الجريمة.
ينقل عيساوي في البرنامج نفسه "حرب لبنان" شهادة مسجلة للراحل السيد محمد حسين فضل الله، يقول فيها: "كنت أهم بالخروج من المسجد جاءتني امرأة من معارفنا وطلبت إليَّ أن أستجيب لبعض أسئلتها أو لبعض المشاكل التي كانت تعرضها عليَّ، ورفضت ذلك لأني كنت متعباً فوق العادة ولكنها أصرت وخضعت لإصرارها، وتحدثت معها .. انطلق في نصف الحديث الانفجار الكبير، بحيث لو كنت في ذلك الوقت في.. لو لم أستجب لهذه المرأة لكنت في نفس مكان الانفجار، وقد كان من المصادفات أن سيارة.. أن سيارات تشبه سياراتي جاءت إلى مكان الانفجار فاعتبر هؤلاء المخططون.. أنني قدمت، حتى أن بعض الإذاعات المحلية اللبنانية قالت: إن فلاناً أصبح تحت الأنقاض قلت: إن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة، وأنه إذا كانوا يخيفوننا بالموت، فإننا لا نخاف من الموت إذا كان في خط القضية وخط الرسالة".
مجزرة بئر العبد
هكذا روى السيد رحمه الله كيف نجا، لكن في الجزء الثاني من شهادته المسجلة أيضاً، يشير السيد فضل الله الى ما يمكن أن نسميه القاتل الفعلي: "وقد حاولت بعض الجهات الرسمية التي لا أريد أن أتحدث عن اسمها، حاولت أن تقدم لي بعنوان المساعدات لمشاريع مؤسسات الأيتام التي أرعاها عن طريق أحد الرسميين اللبنانيين الذي لم يكن شخصية رسمية آنذاك ما يقارب السبعة عشر مليون أو السبعة وعشرين مليوناً لا أذكر الرقم بالتحديد، على أساس التبرع للأيتام من دون أن أوقع على وثيقة ومن دون أن أستلم المبلغ أو ما إلى ذلك قربة إلى الله، ومن دون أن تكون الدولة التي ينتمي إليها هذه المسؤول الكبير، فقلت للوسيط، وكان أحد الصحفيين اللبنانيين شاهداً على ذلك وهو موجود الآن في لبنان ويمكن أن تسألوه، قلت له: إني لا أفعل شيئاً في السر استحي منه في العلانية، وأني لا أستطيع أن أقول إني أخذت من هذا المسؤول الكبير مالاً، لا أستطيع أن أقوله للناس، وما لا أستطيع أن أقوله للناس لا أستطيع أن أفعله".
من يكون رجل الأعمال ذلك الذي جاء الى السيد فضل يرشيه للسكوت على الجريمة.. فنجا السيد مرة أخرى من جريمة موصوفة كان يرتكبها هذا الرجل. انه ودون أدنى شك رئيس الحكومة اللبنانية السابق "رفيق الحريري" برفقة أحد الصحافيين اللبنانيين المقربين من الحالة الشيعية في لبنان. هذا ما يؤكده الكثير ممن توقفوا عند كلام السيد فضل الله لـ "عمر عيساوي" وهو يكشف عن مقايضة سعودية للسكوت عن الجريمة لقاء هذا المال الوفير. وهو تصديق لما كان كتبه لاحقاً بوب ودوورد ( الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية) من أن "الانفجار خططت له المخابرات الأميركية ومولته السعودية ونفذه لبنانيون"، وأيضاً هذا مما اقتبسه عيساوي في "حرب لبنان".
بئر العبد.. 2013، هنا كثيرون لا ينسون من تجرأ يوماً على قتلهم.. ولا يريدون لهذا القاتل أن يختفي في غياهب البئر.. فالقصاص يريح أرواح الشهداء.