مرت الأيام الخمسة الأولى من عدوان تموز/ يوليو 2006 على أهالي وسكان الضاحية الجنوبية لبيروت وكأنها استعادة لأيام اجتياح العام 1982، أصوات الطائرات المغايرة تخيم على المكان، رائحة البارود المنبعث من بين الركام تمتد لمسافات بعيدة، والغبار غطى كل شيء..
لكن الحياة وحدها بقيت تدور مع عقارب الساعة ولا تعود إلى الوراء..
في مثل هذا اليوم كنا (عائلة الانتقاد) نتنقل من مكان إلى مكان تلافياً لما بات يعرف بـ(الاصابات الغلط في الوقت الغلط).. وكنا (عائلتي وأنا) نتنقل في غرف المنزل الصغير مع كل دوي انفجار بعد سقوط القذائف تلافيا لـ "الموت الغلط.. (في الزمن الضائع)..
سلسلة إجراءات كان لا بد من اتخاذها للاستمرار في العمل على الموقع، خط الهاتف الأرضي الذي استمر يعمل، الحاسوب، مولد الطاقة البديلة لساعات الانقطاع (على فكرة في حرب تموز لم تكن الكهرباء في الضاحية كما هي اليوم.. في عز القصف لم تخذلنا يومها)، مع اشتداد القصف قررنا تبديل المنزل بما هو أدنى من الطوابق حرصا على التقليل من احتمالات الاصابة في حال... وسماع الاصوات.. يومها كان مجمع الإمام الحسن(ع)، يرسم معالم الطريق للكثيرين وملاذا آمنا لمن تهدمت بيوتهم وخططا لما بعد الانتصار.
ارتفعت وتيرة القصف.. وبدأت تقترب منا شيئا فشيئا، كان لا بد من الخروج، فخرجنا إلى أرض الله الواسعة...
لكننا لم نغادر، بقينا نتردد إلى البيت وإلى العمل كل يوم، نتفقد المعالم، هنا كان منزل فلان...، وهنا سقطت قذيفة، ذاك الحائط دمرته غارة الساعة الفلانية.. وهذا الطريق حفرته غارة اليوم الفلاني.
في 13 آب/ أغسطس 2006، اتفقنا على العودة إلى المنزل تمهيدا لتنظيفه وترتيبه على ان نحوله مسكنا بديلا، كما كل المساكن التي بقيت لنستضيف الأهل الذين فقدوا منازلهم، وكان أبو أحمد (الحاج عيسى التيراني) قد سبقنا..، شغّل المولدات الكهربائية، ورفع المياه الى الخزانات الرئيسة في المباني، وجلس يرتشف قهوة الصباح مع رائحة "الغاردينيا" في حديقة المجمع، ومع وصول الحاج علي وعائلته الى الباحة اجتمع شمل أول القادمين، تأخرنا يومها بسبب عملا طارىء، انشغلنا، أبى الشباب مغادرتي الا بعد الصلاة..، فيما كانت الصغيرة حوراء تنتظرني في المنزل البديل ـ اشتاقت الى أرجوحتها تريد اللهو قليلا على الشرفة،.. وبعد الصلاة، ارتفعت درجة الحرارة وبدأ المكان الذي كنا فيه يهتز مرة تلو أخرى.. 23 هزة لم تتوقف الا مع خروج صوت أحد المراسلين: " استهداف مسجد الإمام الحسن(ع) في الرويس.."، قلت لزميلي: "قصفوا المجمع".. وكرت السبحة لم نعد مذاك اليوم إلى "بيتنا"، في 12 تموز/ يوليو 2011، كنا على الموعد.. وكما اليوم على أعتاب شهر الرحمة والمغفرة، حملنا ما تيسر من متاع وأثاث ودخلنا.. بل قل خرجنا من المستحيل إلى دائرة الحق والواقع..
كان حلم العودة يراود كل سكان المجمع، وأقول حلم لأن دولا عجزت عن تحقيق أحلام أقل بكثير من هكذا حلم.. لكنه محقق الأحلام التي استعصت على الكثيرين، طُلبنا للقاء بعيد الحرب ـ عذرا على ما سأنقل لكن الحب والحقيقة يدفعانني لذلك ـ البعض أخذ يضرب أخماسا بأسداس، ما العمل؟
"إعمار ما في مصاري، الدمار بدو سنين لينشال، مين بيقبل يعمر بهيك ظرف"، طبعا وطبعا الضغوط السياسية الاميركية والاقليمية والمحلية لم تتوقف بدعايتها الوقحة، تريد حزام بؤس جديدا، المهم دعونا سكان الأبنية المهدمة في المجمع، وانتظرناهم أمام مكان الاجتماع، تقاطروا بالمئات، أغلقت الأبواب وبقيت جالسا خارج القاعة أدخن سيجارتي، هتف أحد الموجودين: "شو مش نازل؟"، أجبته: "خلينا هون، على القليلة برود والطقس حلو"، أردف مستغربا: "ما بتعرف أنو صار بالاجتماع (طبعا المقصود سماحة السيد).."، ولبرهة توقف الزمن، رغم كل المخاطر، ورغم الجراح النازفة والبيوت المدمرة والمحروقة، والعدد الهائل من البشر الذي حضر الاحتفال لم يتردد بالمجيء إليهم.. أذكره يرمقنا بنظرة الأب الحنون العطوف الرؤوف، وبعد حديث طويل.. نتركه لأيام أخرى، قرر ما يلي:
ـ "المال موجود ولا يقلق أحد من هذه النقطة، سنضع ما سنحصل عليه في صندوق واحد، بيتي وبيتكم سوا، نعمرهم وعندما ننتهي لنا حديث آخر..".
هكذا.. وبكلمات قليلة، كما رأى النصر القادم، كتب التتمة بختام الأعمال.. بالإعمار وبالخروج من المستحيل.