على مدى ستين عاماً، كان فكرة راودت كل العهود التي تقلبت على حكم البلاد. وقفت "إسرائيل" حاجزاً بينها وبين التنفيذ، وجعلتها حبيسة حلم مؤجل التحقيق، حلم جرى تخديره بواقعية سياسية تقوم على التسليم بقوة العدو أو بافتعال خلافات داخلية حول هذه الفكرة للتغطية والتستر على الدور الإسرائيلي في حرمان اللبنانيين من فرص التنمية التي كفلتها الطبيعة لهم.
شيء ما تغير بين العامين 2000 و2006، وهو ما جعل الفكرة تقفز من شرنقة الحلم إلى رحاب مشروع قابل للتنفيذ، فلم يعد ناقصاً سوى إقدام الإرادة السياسية على اتخاذ القرار، وهذا ما حدث في 17\1\2012 عندما قررت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إطلاق مشروع الليطاني ليكون المولود الإنمائي البكر للتبدل الاستراتيجي الذي أحدثته المقاومة بانتصاراتها التي لم تتوقف على العدو.
قبلان: المشروع هزيمة جديدة لـ"إسرائيل"
يرُدُّ عضو هيئة الرئاسة في حركة أمل قبلان قبلان أسباب تأخير مشروع الليطاني كل هذه المدة إلى "أسباب سياسية بامتياز، فمنذ أن فكر لبنان باستثمار مياه الليطاني، كانت "اسرائيل" بالمرصاد، لأنه لا يخفى على أحد أن هناك مطامع اسرائيلية كبيرة تستهدف مياه الليطاني، وهذه المطامع برزت أكثر من مرة في دراسات وخطط لسرقة هذه المياه واستثمارها من الجانب الاسرائيلي، أو من خلال المشاريع العسكرية على غرار ما حصل عام 1972 وسميت يومها عملية اجتياح الجنوب الأولى بعملية الليطاني، إذاً، "اسرائيل" تفكر بهذه المياه وكانت دائما تجري الدراسات وتطلق التصاريح حول هذا الأمر، وكانت بالمرصاد لمنع الجهات اللبنانية من استثمار هذه المياه. للأسف كان هناك في لبنان أيادٍ خفية ونوايا سيئة تلتقي مع النوايا الإسرائيلية، وكانت تعيق استثمار مشروع الليطاني،
ويضيف: "طبعا الحكومات المتعاقبة قبل هذه الحكومة قامت بتأخير مشروع الليطاني جميعها بدون استثناء، وكانت الحكومة الحالية حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بما تمثله من منهج جديد في العمل والحكم ومن منهج جديد في ادارة شؤون البلاد، ساهمت بشكل مباشر وبشكل فعلي وجاد باطلاق هذا المشروع. كانت هناك جهود للحكومة الحالية ورئيسها في اخراج هذا المشروع الى النور، وهذا يعطي فكرة عن الروحية التي تتعاطى بها الحكومة مع مسائل أساسية وحساسة مثل مشروع الليطاني، لأنه منذ سبع سنوات، الحكومات المتعاقبة لم تستطع أن تضع مشروع الليطاني موضع التنفيذ، مع أنه جرى تلزيمه في العام 2003، وحكومات ما قبل الحكومات الماضية كانت تتلهى بالكلام عن منسوب الـ300 ومنسوب الـ 600 وسواها من إيجاد تمويلٍ او عدمه، وتتلهى بأن هناك تهديدات من هنا وهناك، ولا تريد أن تدخل في صراع مع العدو. اليوم هذه الحكومة أثبتت أنها قادرة على الدخول في حلبة الصراع مع هذا العدو، طبعا لأنها واثقة بأن هناك من يحميها ومن يدعم مواقفها الوطنية في هذا الاتجاه، وبالتالي الشكر موصول لجميع الذين ساهموا في انجاز هذا المشروع ولكل القوى الخيّرة والحيّة التي عملت على وضع مشروع الليطاني موضع التنفيذ".
كما يؤكد قبلان أن معادلة التنمية في لبنان حاليا باتت تحتكم لمتغيرات موازين القوى الجديدة بيننا وبين العدو، ويقول: "طبعا في الماضي كانت "اسرائيل" تهدد بأنه ممنوع استثمار المياه الموجودة في جنوب لبنان، وإذا أردنا أن نعطي مثالا حياً على ذلك، نذكر بمسألة مياه الوزاني في العام 1964، فعندما أتى رئيس اركان الجامعة العربية إلى لبنان علي عامر للمباشرة في استثمار جزء من مياه الوزاني تحرك الطيران الاسرائيلي وقصف المشروع في ذلك الوقت ومنع الجامعة العربية ولبنان من استثمار مياه الوزاني التي هي أقل بكثير من مياه الليطاني، ولكن المتغير الكبير الذي حصل، ان لبنان في ظل مشروع المقاومة وفي ظل ارادة المواجهة مع العدو الاسرائيلي، قرر وصمم من خلال القوى الحيّة فيه على تحرير وحماية مياهه، كما صمم على تحرير أرضه في جنوب لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 مهزوما من جنوب لبنان، بات هناك أفق جديد في المنطقة ومعادلات جديدة، وهي أن زمن التهويل والتهديد ومنع لبنان من القيام بما يتناسب مع مصلحة شعبه قد توقفت كلياً، وكانت الخطوة الأولى بعد ذلك التحرير، خطوة تحرير مياه الوزاني التي جرت في العامين 2002 و2003، والتي وقف يومها العدو الاسرائيلي عاجزاً عن منع الاستفادة من مشروع الوزاني، لأن المقاومة جاهزة ولبنان جاهز والجنوب جاهز للدفاع عن هذه الأرض، وبالتالي فشلت "اسرائيل" في منع تحرير مياه الوزاني واليوم تفشل وتندحر في عملية منع استثمار مياه الليطاني"!
أما عن عن توقعاته لرد الفعل الإسرائيلي على قرار الحكومة اللبنانية إطلاق مشروع الليطاني، فيقول قبلان: " علينا ان نعلم ان اطماع "اسرائيل" في أرض الجنوب هي لأسباب متعلقة بالمياه، وأن حروبها واحتلالها للجنوب كان بقصد السيطرة على المياه. اليوم هزمت إسرائيل مرة جديدة في هذه المعركة، وهذا اليوم يشكل اندحاراً اسرائيلياً كبيراً لسياسة الاطماع الواضحة اتجاه هذه المياه، وبالتالي قد يكون هناك أكثر من سيناريو لردود الفعل الإسرائيلية حيال هذا الأمر، نستطيع القول إنها تلقت ضربة قوية في مسألة مشروع الليطاني، ولكن هذا العدو سيبقى متربصا ومتحيناً الفرص، وعندما يستطيع ان ينتقم من هؤلاء الذين هزموه في هذا الميدان والذين انتصروا على جيشه في ميدان المواجهة في الجنوب والذين اليوم يهزمونه بمنعه بالحد من أطماعه المائية في مياه الجنوب، فعندما يرى الفرصة سانحة سيقدم على خطوات لمنع المشروع أو تخريبه، ولكننا على ثقة بأن السير بهذا المشروع واطلاقه ليس مسألة في الهواء، إنما هي مسألة ترتكز على قدرة لبنان على حماية هذا المشروع وعلى منع "اسرائيل" من ارتكاب أية حماقة في هذا المجال، فلو لم تكن موازين القوى كما هي اليوم ولو لم يكن واقع الجنوب والمقاومة وواقع لبنان كما هو اليوم، لما استطعنا ان نطلق هذا المشروع، ولسارعت " اسرائيل" الى اتخاذ خطوات عملية لمنعه. ارى اليوم أنها عاجزة، ولكنها لن تقفل باب الطموح ولم تقفل المحاولات لتعطيل هذا المشروع، ولكن هذه حرب مفتوحة حتى النهاية، وحتى نحرر كل قطرة مياه من مياهنا الجنوبية والتي هي حق من حقوقنا وليس لـ"اسرائيل" اي حق فيها، لأن الكيان الغاصب المحتل يجلس على أرض مقدسة هي أرض عربية وليست ارضاً اسرائيلية".
ناصر نصرالله: دورة اقتصادية جديدة
من جهته، يرى النائب السابق ناصر نصرالله (الرئيس السابق لمصلحة الليطاني)، أن المشروع "يساهم في نهضة كبيرة في المنطقة، خاصة اننا نأخذ الماء من منشآت موجودة اخذت منذ أكثر من خمسين سنة، وبالتالي نحن نأخذ مياها بالجاذبية لكي نعطي حوالي مئة وخمسين ألف دونم من الاراضي مياها للري".
وعن الفاتورة المالية للمشروع، فيقول نصرالله: "كلفة المشروع في المرحلة الاولى تبلغ 330 مليون دولار، وهي تشمل الناقل الرئيسي للمياه وطوله 72 كلم والذي ينقل 110 مليون متر مكعب من المياه من بحيرة القرعون، ويؤدي الى تشكيل نهر جار، وبالرغم ان مشروع الجر يسير في قسطل ويمر في نفق، ولكن هو عبارة عن نهر جار على سفوح الجبال، وهو من المشاريع النادرة في العالم، وتمتد مدة تنفيذه لاربع سنوات".
وأضاف: "اما مشروع المرحلة الثانية وهو يبدأ مع مباشرة المعول في العمل، وحسب معطياتي سيتم وضع حجر الأساس في شهر آذار، وبالتالي تنجز الدراسة الخاصة بالمشروع كي تلزم الشبكات التي توصل المياه الى كل الحيازات الزراعية التي تقع في نطاق المشروع".
وعن ميزة هذا المشروع أو الفكرة الأساسية منه فيرى نصرالله أنها: "تتمثل أولا في سياسة الإنماء المتوازن، ثانيا، بات معروفاً أن أي منطقة عقارية لا تتوفر فيها المياه تكون منطقة قاحلة، ولكن عند توفر المياه تصبح منطقة منتجة ومثمرة على كل الأصعدة، والجدوى الاقتصادية التي وضعت للمشروع قبل تأمين الاعتمادات اللازمة من الصندوق العربي والصندوق الكويتي، كانت تؤكد أن الحيازة الزراعية التي تؤمن دخلا للعائلات في منطقة المشروع بنسبة معينة، ستتضاعف قيمة هذه النسبة بمعدل 6 او 7 مرات لدى تنفيذ المشروع، كما انه سيتغير كل الانتاج الزراعي في منطقة المشروع، وبدلا من أن تقوم الزراعة فيها على الدخان والزيتون والعنب، ستدخل زراعات حديثة تبدأ بالورد وتنتهي بكل الزراعات الأخرى الحديثة من فواكه وغيرها وهي زراعات لها أسواقها المحلية والخارجية ايضا".
ويقول نصرالله: "إن عدد البلدات المستفيدة من هذا المشروع يتجاوز الـ76 بلدة وقرية في الاقضية الخمسة: في البقاع الغربي هناك بلدتان، أما في قضاء مرجعيون وبنت جبيل وصور فالافادة تشمل معظم البلدات والقرى التي تقع فوق منسوب الـ300 عن سطح البحر، والمشروع يتضمن بناء عشرين خزاناً يسمونها خزانات التوازن، وهي تملأ وتستفيد منها البلدات المحيطة بها مباشرة وتبلغ سعة هذه الخزانات حوالي 60 الف متر مكعب".
واضاف: "ايضا هناك اربع محطات ضخ ترفع المياه في بعض المناطق الى منسوب 926 متراً عن سطح البحر، أي أنه لن ينحصر فقط بالـ 800 م بل المناطق الأعلى من هذا المنسوب والتي تحتاج الى المياه سيتم تغذيتها بواسطة الضخ، وسيروي هذا المشروع ما يزيد عن 150 الف دونم أي ما يوازي 15 الف هكتار من الأراضي، كما يؤمن هذا المشروع الاستعمالات المنزلية والصناعية لأكثر من قرية او بلدة ضمن النطاق العقاري للمشروع".
وعن فرص العمل يقول نصرالله: "حتما تنفيذ المشروع يحتاج الى آلاف العاملين، وكذلك بعد مرحلة التنفيذ سيكون هناك توظيف لأفراد، حيث ستشهد المنطقة انطلاقة جديدة مع حياة اقتصادية وانمائية وبيئية جديدة، كما أن هناك توجها للتعاون مع المؤسسات مثل مؤسسة المصلحة الوطنية لمشروع الليطاني وأيضا المشروع الأخضر، لأنه سيكون هناك استصلاح لأراض ضمن هذا المشروع، اضافة الى التعاون مع المزارعين بحيث سيكون هناك ما يسمى بالارشاد الزراعي وتوجيه المزارعين لبناء (اضافة الى الري والزراعة) مناطق لزراعة العلف، وذلك لتحفيز المزارعين على تربية الحيوانات الداجنة ضمن نطاق كل حيازة زراعية، ما يؤدي الى دورة اقتصادية تكاملية ضمن منطقة المشروع وبالتالي سوف يصار الى تغيير معالم المنطقة".
وتابع: "فاذا نظرنا الى الحدود المتاخمة للمنطقة المحتلة نلاحظ تأثير المياه فيها بينما داخل الحدود اللبنانية يسود القحط والجفاف، بالطبع مع إنجاز هذا المشروع سيتغير الوضع وتتحول المنطقة الى منطقة خضراء وهذا ما يسمى بالانماء المتوازن والذي يؤدي الى بقاء السكان في أرضهم ويحد من عملية الهجرة الداخلية ويسمح لأهل تلك المنطقة العيش بكرامتهم".
ويلفت نصرالله إلى خطوة تنظيمية قريبة، وقال: "ايضا هناك مشروع قانون وضعته جمعية اصدقاء ابراهيم عبد العال بالتعاون مع ال "يو ان دي بي"، والسبت الماضي كنا عند رئيس الجمهورية وابلغناه بهذه الخطوات، كما سنرسل نسخا من هذا المشروع الى الرسميين المعنيين من اجل تنظيم العلاقة بين المزارعين والمؤسسات من خلال انشاء جمعيات للمستفيدين من المياه، حيث يكون هناك مرجعيات للتنسيق واتحادات للمزارعين بالمعنى الحقيقي للمحافظة على حقوقهم وتأمين استمرارية المشروع كما يجب".