لازمة أميركية
لكن الخطاب الرسمي الأميركي حينها حفظ لازمة واحدة دأب على تكرارها من أعلى
المستويات إلى أدناها، إذ نُسبت كل تلك الضربات إلى شخص واحد اسمه عماد
مغنية الذي صار من وجهة نظر واشنطن مسؤولاً عن كل ما يتعرض له الأميركيون
في الشرق الأوسط وخارجه، وبات المطلوب رقم واحد، من دون أن تقدم الأجهزة
الأميركية ولو دليلاً حسياً واحداً على صدق ادعاءاتها. وأصبح الرجل المسؤول
الأول عن كل النكسة الأميركية التي أفقدتها القدرة على التحرك في الساحة
اللبنانية لسنوات طويلة وباتت عاجزة عن القيام بما يعيد لها الاعتبار في
تلك الحرب التي بحثت فيها منظمة الجهاد الإسلامي عن كل ما له علاقة
بالـ"CIA" وأحبطته، أياً كانت الصفة والعنوان الذي يعمل تحتهما، بحيث تمكنت
من تفكيك كل القدرة الاستخبارية الأميركية في لبنان، إلى درجة أن الولايات
المتحدة استعانت بإسرائيل لتعرف شيئاً عن ضابطها وليام هيغنز الذي اختفت
آثاره في الجنوب عام 1988، وأقدمت الأخيرة على اختطاف الشيخ عبد الكريم
عبيد من منزله في جبشيت عام 1989 لهذه الغاية، علماً أن السبب الإسرائيلي
المعلن لاختطاف الشيخ عبيد هو البحث عن الطيار الأسير رون أراد، وعلماً
أيضاً أنه لا شيء يربط الشيخ عبيد بآراد، لكن اسرائيل لا تستطيع أن تقول
لجمهورها إنها تنفذ عمليات أمنية لصالح الاستخبارات الأميركية.
هذا البؤس الذي وصل إليه العمل الاستخباراتي الأمني الأميركي في لبنان
استمر على هذا النحو من التدهور، لا سيما بعد توقف الحرب الأهلية وتطبيق
اتفاق الطائف وإمساك سوريا بالملف اللبناني مباشرة وعلى جميع المستويات بما
فيها المستوى الأمني، بحيث فقدت الاستخبارات الأميركية البيئة الآمنة لها
التي كانت تتحرك فيها بسهولة في مناطق حلفائها فيما كان يعرف بشرق بيروت
سابقاً. وعليه أصبح في تلك الفترة جل ما يستطيع أن يفعله الأمن الأميركي
أنه كلما تعرض شخص أميركي أو مصلحة أميركية في أي مكان في العالم لعمل ما
تضع واشنطن مباشرة اسم عماد مغنية في الصدارة، قبل أن يصبح لها عدو آخر
اسمه تنظيم القاعدة، حيث انتقلت الـ"CIA" بعدها الى مهمة جديدة هي إيجاد
رابط بين عماد مغنية وأسامة بن لادن لكن دون جدوى.
التحول الأساس في عمل الـ"CIA" في لبنان حصل بالتزامن مع اغتيال الرئيس
رفيق الحريري وخروج سوريا من لبنان، حيث عاد نشاطها الاستخباري إلى ذروته،
بعدما أصبح لبنان ساحة مفتوحة لجميع الاستخبارات الأجنبية. وإذ حاولت الـ"
سي. اي. ايه" أن تبحث عن حزب الله في لبنان، فإنها وجدته كما قالت تقاريرها
الرسمية في العراق، على الأقل بدءاً من العام 2005، عندما بدأت قواتها
المحتلة هناك تتعرض لهجمات قوية وقاتلة، حينها استعانت الاستخبارات
الأميركية بصديقتها الإسرائيلية لتحليل المعطيات التي جمعتها من أرض
العمليات فشرعت تقول "إنها تحمل بصمات حزب الله، إن من حيث التكتيك، أو من
حيث نوعية العبوات التلفزيونية القاتلة التي يمتلك حزب الله ـ كما يزعم
الاميركيون والاسرائيليون ـ وكالتها الحصرية"، أو من حيث الإعلان عن اعتقال
عدد من الشبان اللبنانيين وصياغة جملة جديدة ظهرت في خضم ذلك الصراع تقول
"إنهم من حزب الله وإنهم يعملون على تنظيم وتدريب مجموعات عراقية مقاتلة
لاستهداف الأميركيين"، وآخر هؤلاء اللبناني علي موسى دقدوق.
في المقابل ضبط حزب الله الأميركيين متلبسين بالجرم المشهود في حرب تموز من
خلال عدة وقائع بعضها معلن وبعضها كشفه الإسرائيليون لاحقاً، وبعضها تكفلت
وثائق ويكيليكس بكشفه، وبين هذا وذاك كوَّن حزب الله من مصادره الخاصة ما
يحتاجه لبناء تصور شامل عن دور الأميركيين في حرب تموز والذي توزع على
الشكل التالي:
1ـ الإدارة السياسية المباشرة للحرب بمتابعة لوجستية من وزيرة الخارجية
الاميركية كوندوليزا رايس بدءاً من مقرها في واشنطن مروراً بالعواصم
المعنية وصولاً إلى مجلس الأمن.
2ـ فتحُ الأميركيين مخازنهم أمام الاسرائيليين لإمدادهم بما يحتاجونه من
أسلحة وقنابل ذكية نقلت على عجل إلى كيان العدو عبر جسر جوي مر بلندن.
3ـ وجود ضباط أميركيين كبار في قيادة الأركان الإسرائيلية للإفادة منهم في إدارة العمليات الحربية.
4ـ تقديم جميع المعلومات الاستخبارية التي جمعتها المصادر الاميركية المتعددة عن حزب الله وقدراته العسكرية وكل معلومة توافرت لديهم.
هذه المصادر الاستخبارية الأميركية التي صبت جهدها لمساعدة اسرائيل في ضرب حزب الله توزعت على الشكل التالي:
أ ـ قيام السفارة الاميركية بمختلف أعضاء طاقمها بجمع معلومات ووقائع
ميدانية وسياسية وجمع آراء واستشارات من شرائح متعددة في المجتمع اللبناني
بعضها مناوئ للمقاومة وبعضها محايد، وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس عن محاضر
اللقاءات التي عقدها السفراء الأميركيون في بيروت قبل وخلال وبعد حرب تموز،
بحيث شكلت تقارير هؤلاء الديبلوماسيين مادة مهمة في تقويم الوضع في تل
أبيب وواشنطن والبناء عليها في اتخاذ القرارات التنفيذية في المعركة
السياسية والعسكرية والأمنية.
ب ـ الأقمار الصناعية الأميركية التي وضعت بخدمة مقار العمليات الحربية
الاسرائيلية سواء في رصد تحركات المقاومين أم في توجيه ما يلزم من صواريخ
تساقطت على مناطق المقاومة.
ج ـ شبكتا الاتصالات الخلوية والسلكية في لبنان اللتان تبين أنهما مخترقتان
بالكامل سواء من أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية أم الـ"سي. اي. ايه"، بحيث
شكلت منجماً للمعلومات المفترضة وإحدى أبرز وسائل التجسس الأميركي
والإسرائيلي على اللبنانيين عموماً عسى أن تحصّل شيئاً عن المقاومة التي
لها شبكتها السلكية الخاصة ولا تستخدم الشبكات الميتة.
د ـ شبكة المراقبة المالية التي تتحكم فيها واشنطن من نيويورك بدعوى مكافحة
الإرهاب والتي ترتبط بها جميع التحويلات المالية بحيث تتيح للقسم المختص
بهذا الشأن في الاستخبارات الاميركية تتبع حركة أي مبلغ مالي " مشبوه" من
شأنه أن يصب في خدمة المقاومة وبيئتها، حتى ولو كان مالاً "صديقاً" وليس
"منتمياً"، وحتى لو كان مالاً اجتماعياً وصحياً وليس مالاً "حربياً" إن صح
التعبير.
هـ ـ المصادر البشرية، وتتوزع على قسمين: واحد استفادت منه الـ"CIA" من
خلال علاقتها الرسمية مع بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية التي حرفتها الظروف
السياسية الجديدة بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج سوريا من لبنان عن
وظيفتها السابقة وباتت تعمل على رصد عمل المقاومة، ما وفر للاميركيين
مصدراً للمعلومات بطريقة " قانونية" إن صح التعبير؛ ومصدر آخر، وهو الأخطر
والأصعب، وتمثل بقيام الـ"CIA" بتجنيد عملاء لها داخل المقاومة، ليشكل
إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن كشف هؤلاء الجواسيس
ومن جندهم أول "ربط نزاع" جديد رسمي بين المقاومة والاستخبارات الأميركية
منذ تفكيك الشبكة التي نفذت مجزرة بئر العبد عام 1985.
الضربة ـ الكارثة
أخذ حزب الله الجميع إلى مكان واحد وشغلهم بقضية اختراقه ليتفرغ إلى المكان
الآخر، وهو كشف وتفكيك شبكة الـ"CIA" الخفية التي تعمل في لبنان، ليعترف
الأميركييون ـ بعد بضعة أسابيع فقط ـ بتمكن الحزب من كشف واعتقال 12
جاسوساً يعملون على الساحة اللبنانية، ممن ليس لهم علاقة بالجسم التنظيمي
للمقاومة، في حين أن حزب الله لم يبادر إلى الإعلان عن أي شيء بهذا الصدد،
قبل أن يباغت الأميركيين ليس بخبر اعتقال جواسيس غير أميركيين، بل بكشف
فريق ضباط التجسس في الـ"CIA" الذي يتخذ من سفارة عوكر مقراً له ليقوم
بتجنيد لبنانيين من مستويات سياسية وإعلامية ومالية وأكاديمية وإدارية
وصحية، وكل ما يمكن أن تطاله أيديهم بحثاً عن معلومة ولو صغيرة تتعلق
بالمقاومة وبنيتها وقدرتها العسكرية. وكأسلافه انتحل "باتريك ماكفيلي" صفة
ديبلوماسي في السفارة ليدير هذا الفريق، الذي يضم حسب بعض المصادر الأجنبية
عشرين جاسوساً، كشفت المقاومة أسماء بعضهم الحقيقية وتواريخ ولادتهم
وأسماءهم المستعارة والأماكن التي يلتقون فيها مع عملائهم، وطرق الابتزاز
والفساد المالي التي يمارسونها معهم، ثم في النهاية كيف تصب هذه المعلومات
في خزانة الاستخبارات الاسرائيلية، وكيف يتولى هؤلاء الضباط الأميركيون ربط
جواسيسهم اللبنانيين بالموساد الإسرائيلي ليتحولوا من جواسيس لواشنطن إلى
جواسيس لـ"تل أبيب".
حجم الضربة القاتلة المتمثل في كشف هذه المنظومة، والذي يعني بالمفهوم
الأمني تعطيلها عن العمل وسحبها من الساحة اللبنانية، هو الذي فتح شهية
الصحافة الاميركية والضباط السابقين في الـ"CIA" ممن عملوا في لبنان
والمنطقة ليدلوا بدلوهم ويوجهوا أقذع الانتقادات لوكالة الاستخبارات
المركزية "التي لا تعرف التعامل مع خصم كفوء ومتمرس ومتطور وذي قدرات ضخمة
ومحترفة مثل حزب الله"، إلى ما هنالك من التوصيفات الأميركية التي أعطت
الحدث حقه، مع جرعة دائمة للتخفيف من وطأة المصيبة أحياناً، من خلال نسبة
الإنجاز إلى خلل في عمل ضباط الـ"CIA" وليس إلى كفاءة حزب الله فحسب.
طبعاً اجتهد بعض المهتمين في البحث عن الكيفية التي تمكن فيها حزب الله من
كشف هذه الشبكة، والظن أنها بفعل اكتشاف الأشخاص الاثنين أو الثلاثة الذين
جندتهم الـ"CIA" داخل الحزب، وهو طبعاً ما لا يتفق مع بديهيات العمل
الاستخباري، اذ إن جل ما يعرفه العميل عن الضابط المشغل اسمه الوهمي وليس
الحقيقي، والأمكنة التي يلتقيه فيها، وما يطلبه منه وما يعطيه له. ولم يحصل
أن قدم أي جاسوس اعتقل في لبنان معلومة شخصية عن مشغليه أكثر من ذلك، وهو
ما يقلق الـ"CIA" بالتحديد، إذ إن الحصول على معلومات تفصيلية عن ضباطها
يوجب وضع فرضية على الطاولة في مقر الوكالة في فرجينيا عن احتمال حصول
اختراق ما في جسمها ـ إلى جانب فرضيات أخرى ـ أتاح للمقاومة الحصول على هذه
المعلومات التي لا يمكن لأي عميل يعمل مع الـ"CIA" أن يعرفها، وهذا ما
يؤدي حكماً الى سحب هؤلاء من الخدمة أولاً، وإجراء تحقيق داخلي في جهاز
الـ"CIA" ثانياً.
تحتاج وكالة المخابرات المركزية الأميركية إلى وقت قد يطول سنوات بحسب بعض
ضباطها السابقين لكي تستوعب الضربة ـ الكارثة وتُجري مراجعة لأساليب عملها
وتشكل فرق تجسس جديدة في مواجهة خصم يعزز دائماً قدراته وتقنياته في الحروب
العسكرية والأمنية، كما قال بول ماتر في تقرير نشره معهد "فورين بوليسي ان
فوكس"، جازماً، وهذه هي الضربة الأكبر من حيث النتيجة، إن "هذه الانتكاسة
ستحد من قدرة "سي.اي.ايه" على تسليم البيت الأبيض المعلومات الاستخبارية
الموضوعية والتحليلات المتعلقة بها في توقيت سيئ بالنسبة للسياسات
الإسرائيلية والأميركية على السواء"، حيث لم تمنع الدروس التي تعلمتها
"سي.اي.ايه" من إسرائيل عملاء الوكالة من تجنب القبض عليهم، كما قالت مجلة
«فوربس»، وهذا غيض من فيض الصراخ الأميركي.
بحسب الرواية الأميركية الرسمية فإن عماد مغنية هو من قاد الحرب مع
الاستخبارات الأميركية في عقد الثمانينيات باسم منظمة الجهاد الإسلامي،
ونال من كبار ضباطها الإقليميين وألحق بها خسائر جسيمة، ولم يكن حينها يوجد
لا أجهزة اتصالات خلوية ولا شبكات انترنت ولا برامج معلوماتية متطورة تحلل
بسرعة فائقة ملايين المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية في بضع ثوانٍ،
ولا أي من تقنيات مكافحة التجسس المتوافرة حالياً لدى مجموعته، ورغم ذلك
تمكن في تلك الفترة من تحقيق هذه الإنجازات. إذا كان الأميركيون مقتنعين
بروايتهم فهذا يعني أن أمامهم السؤال التالي: ألا يمكن أن يكون الشهيد
القائد عماد مغنية خلف إرثاً من المعرفة والمهارة الأمنية مكنت المقاومة من
أن تكشف في فترة قياسية أضخم شبكة أمنية أميركية في لبنان دفعة واحدة،
بعملائها اللبنانيين وضباطها الأميركيين؟
لقراءة الحلقة الأولى:نكسة "CIA" في لبنان: الضربات القاصمة لأكبر جهاز استخباري عالمي بدأت هنا في بيروت (1)