عقيل الشيخ حسين
الفرق كبير بين بدايات هذا العقد الثاني من القرن، وهو العقد الذي يشهد
انهيار المشروع الصهيوني ـ الأميركي في المنطقة العربية والإسلامية، وبين
بدايات العقد الماضي الذي كان يبدو واعداً بشكل خاص بالنسبة للمشروع
المذكور.
فالواقع أن شيئاً لم يكن، في أعقاب انهيار المعسكر السوفياتي، يبدو قادراً على إعاقة إقامة الإمبراطورية الأميركية العالمية.
وخصوصاً أن معظم الأنظمة العربية المسماة "معتدلة" كانت تتبع حرفياً
توجيهات كوندوليسا رايس وتتنافس على الاعتراف بالكيان الصهيوني وعلى إقامة
مختلف أشكال العلاقات معه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وفي الوقت نفسه
تنحاز إلى الصف الأميركي ـ الإسرائيلي في معاداة إيران الإسلامية وفي
الافتراء عليها بتهمة أنها تشكل الخطر الأكبر الذي يهدد العالم العربي
وسائر العالم.
صحيح أن طبول الحرب تقرع الآن من خلال التهديدات الغربية والإسرائيلية بشن
حرب على إيران أو سوريا أو لبنان. لكن ذلك مثير للسخرية في ظل الوضع
المأزوم الذي يتخبط فيه معسكر الاستكبار الدولي وامتداداته الإقليمية.
لقد تغيرت الأوضاع إلى حد بعيد مع هزيمة الجيش الإسرائيلي الذي كانت تقول
المزاعم بأنه لا يقهر، في لبنان وغزة صيف العام 2006 وشتاء العام 2008، ومع
هزيمة أميركا وحلفائها في العراق، ومع تصاعد قوة ونفوذ إيران وقوى
المقاومة والممانعة في المنطقة... وخصوصاً مع تفجر الثورات العربية وفي
طليعتها ثورة مصر، أكبر البلدان العربية، والبلد الذي قطع بشكل كامل في ظل
السادات ثم مبارك مع القضية العربية والفلسطينية عندما وقع اتفاقيات كامب
دايفد وواصل الالتزام بها.
ولم تتوقف الأوضاع عن التغير مع التجذر الملموس إلى هذا الحد أو ذاك لهذه
الثورات التي تتجه في تونس ومصر والأردن وحتى في ليبيا (المحررة أطلسياً!)
نحو الأسلمة التي لا يمكنها ـ حتى لو لم تتم بالتوافق مع الأميركيين ـ أن
تستمر في مجانبة التصدي للنقاط الساخنة وفي طليعتها قضية فلسطين المنتهكة
منذ أكثر من ستين عاماً من قبل الصهاينة المدعومين من قبل الغرب
والمستفيدين من تواطؤ عرب أميركا... اللهم إلا إذا كانت لا تريد أن تعبأ
بفقدان مصداقيتها.
ففي كل مكان، تأتي المظاهرات التي طالبت أو ما تزال تطالب برحيل هذا أو ذاك
من الرؤساء والملوك العرب، لتصرّ أيضاً على إدانة السياسات الأميركية
والعربية المرتبطة بها وعلى إعطاء فلسطين وعاصمتها القدس مكاناً أكثر فأكثر
بروزاً بين مطالبها الأخرى.
وقد وقعت مشادات بين تونس والرياض في أعقاب استقبال بن علي في السعودية.
ووقعت مشادات بين قوى مصرية والسعودية بخصوص المساعدات التي تقدمها الأخيرة
لجماعات سلفية تقوم بوضع العصي في عجلات الثورة التي ما تزال في مرحلة
تلمس طريقها.
وفي اليمن، نسمع جموع المتظاهرين تطلق شعارات من النوع الذي نسمعه في لبنان
أو إيران لإدانة الولايات المتحدة و"اسرائيل" ومجلس التعاون الخليجي،
باعتبار مسؤوليتها عن دعم نظام علي عبد الله صالح.
كل هذا دون الحديث عن البحرين حيث تتوجه الإدانة مباشرة، فيما يتجاوز
النظام الحاكم، إلى الأميركيين الذين أعطوا السعودية ضوءاً أخضر لغزو
البلاد عسكرياً.
على ذلك، فإن الثورات العربية تتخلى باطّراد عن الشعارات المبهمة (حرية،
ديموقراطية) لتتخذ لنفسها هوية عربية وإسلامية تتجسد من خلال مكافحة
المشروع الصهيوني ـ الأميركي وامتداداته العربية.
وتأخذ هذه الظاهرة أشكالاً ملموسة في مصر حيث تتوالى التفجيرات التي تستهدف
خط الأنابيب الذي ينقل الغاز المصري إلى "إسرائيل". كما إن سفارة الكيان
الصهيوني في القاهرة هوجمت وتم احتلالها لمرات عديدة من قبل المتظاهرين
المصريين.
أما ما هو أكثر إثارة لمخاوف الإسرائيليين فيتمثل بما بات يسمى بالثورة
المصرية الثانية. في الثورة الأولى، كان الشعب يريد إسقاط الرئيس (حسني
مبارك). وقد فعل. وها هو، في الثورة الثانية، يريد إسقاط المشير (حسين
طنطاوي).
والمعروف أن طنطاوي كان وزيرَ دفاعٍ سابقاً في نظام مبارك، وأنه يواصل
تقديم التطمينات للإسرائيليين حول تمسك المجلس الأعلى للقوات المسلحة
المصرية باتفاقيات السلام.
وسواء سقط المشير أم لم يسقط في المدى المنظور، فإن مصر ستصوّت لانتخاب
برلمانها الأول في مرحلة ما بعد قيام الثورة. وسيكون الإخوان المسلمون
الذين سيصلون إلى السلطة مع غيرهم من القوى الإسلامية والعلمانية محل
اختبار: مصداقيتهم رهن بمدى التزامهم بالقضية العربية والإسلامية.
فإذا ما تنكروا لهذا الالتزام، فإن ذلك سيدفع باتجاه ظهور قوى أكثر جذرية.
يكفي أن نستمع إلى شيخ الأزهر، وهو مرجعية دينية كبرى على مستوى مصر
والعالم الإسلامي: صفحة "إسرائيل" يجب ان تطوى، والقضية الفلسطينية ليست
شأناً فلسطينياً أو قومياً عربياً وحسب. إنها قضية إسلامية عقائدية،
والمسلمون على استعداد لتحرير فلسطين من الاغتصاب الإسرائيلي.
في الأردن أيضاً احتشدت عشرات الألوف لإحياء الذكرى الرابعة والستين لتقسيم
فلسطين في العام 1947. وعبروا عن عزمهم على العمل من أجل تحرير فلسطين من
النهر إلى البحر.
"بين القاهرة وطهران"، أي بين المطرقة والسندان تأخذ "إسرائيل" موقعها
الآن، على ما كتبته يديعوت أحرونوت في صدر صفحتها الأولى، بعد التطورات
الحالية التي تشهدها مصر.
لكن يبدو أن الصحيفة الإسرائيلية قد تناست أن دمشق بدأت بالخروج من الفتنة
أقوى مما كانت. وأن بيروت هي أقوى مما كانت عليه في أي وقت سابق، وأن بغداد
وصنعاء لن تتأخرا في احتلال موقعهما في المعركة...
وتناست خصوصاً أن الزلازل قد بدأت تهز جميع بلدان معسكر الاستكبار الدولي والإقليمي.