الضفة الغربية
خلال
عشر سنوات من اعتقالها عاشت الأسيرة الفلسطينية قاهرة السعدي مع الألم و
الحسرة، ليس على السجن وقسوة التحقيق ولكن على أطفال أربعة تركتهم خلفها
بلا مؤنس لهم ولا حانٍ... بعد إغلاق البيت و اعتقال الأم والأب.
"قاهرة" اعتقلت بُعيد معركة جنين البطولية في العام 2002. حين اعتقالها
داهموا البيت واقتادوها إلى السجن دون أن تدري أن زوجها ناصر في "الجيب
العسكري" الأخر، وبعد أيام كانت الفاجعة حينما اخبرها احد المحققين أن
زوجها معتقل وأن "أطفالها باتوا بلا أم ولا أب".
تتذكر "قاهرة" هذه اللحظات و ما شعرت به حينها بعد عشر سنوات من السجن،
وبعد الإفراج عنها ضمن صفقة تبادل الأسرى مع الجندي المختطف جلعاد شاليط، و
لا تكاد تصدق " أنا هنا بين أبنائي". قضت ليلتها الأولى تراقبهم وهم
نائمون "أخشى أن يكون حلما" قالت.
"هدية من الله..."
في المقاطعة حين استقبالها و رؤية الأطفال وقد كبروا وأصبحوا "شباناً و
صبايا" تعرضت للإغماء "من الفرحة" أكثر من مرة، ورددت كثيراً " الحمد لله
على هذه النعمة".
تقول قاهرة و التي كانت تواجه حكماً بالسجن المؤبد ثلاث مرات و 30 عاماً:
"خروجي إلى أبنائي معجزة من الله و هدية سأبقى طوال حياتي أشكره وأحمده
عليها. عدت من الموت إلى الحياة، من القبر إلى النور مرة أخرى".
وكانت "إسرائيل" ترفض الإفراج عن السعدي على وجه الخصوص، هي وأسيرتين
اثنتين. وحين الحديث عن تبييض السجون كانت تنوي الإفراج عنها وإبعادها
للخارج، إلا أنها رفضت ولم تقبل بذلك: " لم يكن للإفراج عني معنى لو تم
إبعادي، عشت أيام رعب منذ الإعلان عن الصفقة خشية أن أكون من بين المبعدين،
و أن اترك أبنائي من جديد، و أعيش بوحشة وغربة جديدة".
الأم تعود من جديد...
حتى
الإفراج عنها ووصولها إلى المقاطعة بقي أبناء السعدي الأربعة (ساندي 20
عاماً، محمد 19 عاماً، ورأفت 16 عاماً، و الصغيرة دينا 13 عاماً) في خوف من
أن لا تكون والدتهم من بين الأسرى. راحوا يبحثون في الوجوه حتى رأوا
والدتهم وبعد عشر سنوات أمامهم، دون "شييك" أو حاجز احتلالي يمنعهم من
حضنها.
تقول ساندي الابنة البكر لـ"قاهرة": "تركتنا والدتي صغاراً، كان عمري 10
سنوات. في أول ثلاث سنوات من اعتقالها، مُنعت الزيارة عن والدتي وحينما
زرناها لأول مرة لم نتمكن من الوصول اليها كان "الشييك" يحول بيننا، وعندما
بلغت من العمر 16 عاماً لم يُسمح لي بزيارتها سوى مرتين خلال اربع سنوات".
وكما ساندي كانت الابنة الأصغر "دينا" و التي كانت تبلغ من العمر 3 سنوات
فقط حين اعتقال والدتها، لا تتذكر الكثير عنها سوى ما حدثها به أشقاؤها "
أمي تعمل كذا و تطبخ كذا و تقول كذا". و فيما عدا ذلك تعرفها صورة من وراء
زجاج و صوت يأتي عبر التلفون". وقد عانى الأطفال الكثير بغياب الأم، فحين
اعتقالها ووالدهم شُتِّت الأبناء فكانت "ساندي" و"دينا" ببيت جدهما، فيما
دفع بـ"محمد و رأفت" إلى ملجأ، طوال خمس سنوات, إلى حين الإفراج عن والدهم و
عودتهم إلى البيت. تقول ساندي:" أشعر كمن ماتت والدتها و عادت إليها من
جديد... لن تكون هناك فرحة أكبر... لا أعلم كيف ستكون حياتنا معها، و لكن
بالتأكيد سنكون بوضع أفضل و سنعود من جديد نشعر بالحنان و البهجة في البيت،
فها هي والدتي عادت إلينا من جديد". قاهرة هي الأخرى كانت فرحتها اكبر
بأبنائها الذين كبروا، رغم أنها لم تكن معهم: " عندما رأيت أبنائي أمامي لم
أصدق نفسي...تغيروا كثيراً, الأطفال الذين تركتهم أصبحوا شباناً، لا أعرف
عنهم الكثير، و سأبدأ من جديد معهم، لأعوض لهم بعض الحرمان الذي عاشوه".
فرحة ناقصة...
اتُّهمت الأسيرة المحررة قاهرة السعدي بعدد من التهم منها نقل
السلاح و مساعدة إستشهاديين والانتماء لحركة الجهاد الإسلامي، وواجهت
ظروفاً صعبة للغاية مع الأسر وخلال التحقيق الذي استمر لأكثر من شهرين
متتاليين. ولم تكن سنوات السجن العشر أفضل حالاً من التحقيق، فقد عانت
السعدي بعد حكمها و نقلها إلى الأقسام العادية مع الأسيرات ما عانين من
ظروف احتجاز سيئة للغاية وأمراض و تعذيب، كانت آثاره بادية عليها حين إطلاق
سراحها. تقول:" السجان كان لا يألو جهداً بتعذيبنا و تحطيم معنوياتنا. في
بداية الأسر عُزلت عن العالم ثلاث سنوات. لم يزرني أحد من أهلي ولم أعلم
شيئاً عن أبنائي ومصير زوجي، وحين سمح لي بالزيارة لم يُسمح لهم جميعاً".
المقاومة المجاهدة أعادت "قاهرة" إلى أبنائها وقهرت أحكام الاحتلال
ومؤبداته، فكانت فرحة لا توصف، إلا أن هذه الفرحة بقيت منقوصة، فـ"قاهرة"
تركت أكثر من 9000 أسير لا يزالون ينتظرون هدية جديدة من المقاومة.. وربما
عبر "جلعاد" جديد.