المقاومة ميدانياً ومدنياً: أي موقع في ضوء اشكاليات التوحد والانقسام داخل الواقع اللبناني
المؤلف: علي فياض (رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق
تسعى هذه المداخلة الى تقديم صورة، آمل ان تكون علمية ودقيقة عن الواقع الميداني للمقاومة، وعن علاقة هذه المقاومة بالمركب السياسي والاجتماعي اللبناني بما ينطوي عليه من اشكاليات عائمة او غائرة، وقد حرصت ان استند في جانب من المداخلة، وتحديداً في شقها الاول على الارقام والمؤشرات، لاني ازعم دائماً ان التعميم يضل الحقيقة، وفي الشق الثاني، حاولت ان اعالج، حفراً وتنقيباً ما اراه جوهرياً من اشكاليات السوسيولوجيا السياسية اللبنانية في علاقتها بالمقاومة.. وقد حداني الى ذلك الرغبة بالحوار والتفاعل ومواجهة ما يجب ان نواجهه دون مواربة او تلط.
اولاً - اسهام الشباب في المقاومة الميدانية: ان الاطلالة على اعمار الشهداء الذين قضوا خلال عمليات للمقاومة، يسمح لنا بتجاوز العقبات التي تحول دون دراسة البنية البشرية للمقاومة.
وهكذا فان دراسة عينة من اعمار الشهداء تغطي السنوات 93-97، من شأنها ان تساعد على تسليط الضوء على اسهام الشباب في المقاومة.
حيث نلاحظ ان المعدل العام لمتوسط اعمار الشهداء خلال العام 93 بلغ 22.7 عاماً (عمر اصغرهم 19 سنة واكبرهم 33 عاماً)، اما متوسط اعمار الشهداء خلال العام 94 فقد بلغ 22,1 عاماً (اصغرهم 17 عاماً واكبرهم 28 عاماً)، ومتوسط اعمار الشهداء في العام 95، بلغ 23,4 عاماً (عمر اصغرهم 18 عاماً واكبرهم 35 عاماً)، اما متوسط اعمار العام 1996 فقد بلغ 22،5 عاماً ( عمر اصغرهم 18 عاماً واكبرهم 35 عاماً)، وفي العام 97 بلغ متوسط اعمار الشهداء 25 عاماً (عمر اصغرهم 18 عاماً واكبرهم 38 عاماً).
ومن الواضح ان دلالات الارقام التالية تؤكد ان البنية المقاتلة في المقاومة هي بنية شابة، ويبدو هذا امراً طبيعياً، كما ان المعدلات تعكس فئة عمرية غالبة هي العشرينات. وما يتدنى عن العشرينات يبدو محدوداً، وما يزيد يبدو محدوداً استثنائياً ايضاً.
وما يلفت في ارتفاع معدل السنة الاخيرة ومن ارقام الاعمار العليا لاعمار الشهداء متساوية ومنسجمة بصورة عامة مع المكانة الطبيعية التي تشغلها المقاومة ومع تنامي هذه المكانة في الاهتمام السياسي - الاجتماعي اللبناني.
ثانياً - الواقع الميداني للمقاومة: ثمة مؤشرات اربعة يمكن الاستدلال بها للاحاطة بالواقع الميداني للمقاومة، وهي: عدد عمليات المقاومة، خسائر العدو، عدد شهداء المقاومة، ونوعية العمليات.
أ - ان قراءة المعدلات العامة السنوية لاجمالي عمليات المقاومة، تظهر المنحى التصاعدي لهذه العمليات، حيث نجد ان المعدل السنوي لمتوسط عدد العمليات خلال الاعوام (89-91) بلغ 292 عملية، بينما بلغ متوسط الاعوام (92-94) 465 عملية، في حين بلغ متوسط الاعوام الثلاثة الاخيرة (95 - 97) 936 عملية في حين بلغ اسهام المقاومة الاسلامية وحدها ما متوسطه 736 عملية، وتدل هذه المعدلات على التطور الكمي في عمل المقاومة وعلى تصاعد وتيرتها على رغم تعقد ظروف المواجهة وتدابير العدو المكثفة.
ب - خسائر العدو:
تظهر خسائر العدو الاجمالية وفقاً لمصادره هو، ما بين قتلى وجرحى وما بين اسرائيليين ولحديين ان المنحى العام هو منحى تصاعدي بدوره، فنرى ان المعدل السنوي لمتوسط اصابات العدو بلغ خلال الاعوام (92-94) 154 اصابة، وفي الاعوام الثلاثة والاخيرة بلغ متوسط اصاباته 256 اصابة.
ويستدل بالمؤشرات هذه على فاعلية عمليات المقاومة، بما يتجاوز هدف الاشغال والارباك الى تحقيق نتائج نوعية على مستوى الخسائر البشرية للعدو.
ج - شهداء المقاومة: تبين معدلات عدد شهداء المقاومة بصورة عامة، ان منحاها تصاعدي، ويبقى المنحى تصاعدياً ايضاً في حال اقتصرت الارقام على شهداء المقاومة الاسلامية بوصفهم البنية القتالية المحترفة في عمل المقاومة... ويبدو ذلك طبيعياً بالنظر الى ارتفاع عدد العمليات ارتفاعاً كبيراً... وبالاستناد الى تطور المعطيات الميدانية للمواجهة وحدتها وتعقد تقنياتها وتكتيكاتها.
ولا يخفى ان الدلالة الرئيسية لارتفاع عدد الشهداء مقروناً مع ارتفاع عدد العمليات هي تصعيد مستوى المقاومة والاصرار على تسعير اوارها تحقيقاً للاهداف المرجوة.
فنجد ان متوسط عدد شهداء المقاومة في الاعوام الثلاثة الاخيرة (95-97) بلغ 71 شهيداً، بينما بلغ متوسط عدد شهداء المقاومة الاسلامية وحدها في الاعوام (89-91) 26 شهيداً، وفي الاعوام (92-94) 35 شهيداً، وفي الاعوام (95-97) 50 شهيداً.
د - نوعية العمليات: تتوزع عمليات المقاومة على الكمائن والعبوات والهجومات والقصف والعمليات الاستشهادية والقصف بصواريخ الكاتيوشا والمواجهات والقنص، وفي حسابات المقاومة تبدو وسائل تنفيذ هذه العمليات تقليدية الا اذا استثنينا العمليات الاستشهادية وصواريخ الكاتيوشا التي هي سلاح ذو وظيفة دفاعية بحتة، حيث يمكن اعتبارهما سلاحين استراتيجيين.
ويلاحظ انه مع تطور الاداء الميداني للمقاومة الاسلامية، وتراكم خبرات مخططيها ومقاتليها، صار التركيز على حرب العبوات الذكية، التي يعبر عنها الاسرائيلي بانه يخوض يومياً حرب ادمغة، وعلى التفوق الاستخباراتي للمقاومة الذي ساعد على تنفيذ عمليات امنية في عمق الشريط المحتل، واستهداف مواكب كبار ضباط العدو وتعطيل عمليات النخبة لديه على غرار ما حصل في انصارية حيث ابيدت قوة الكوماندوس المتسللة بأكملها تقريباً.
ويجري التركيز كذلك على القصف شبه اليومي المركز الفائق الدقة لمواقع العدو، والذي يؤدي الى شل فاعلية هذه المواقع، واستخدام عنصر المفاجأة الى اعلى حد بما يؤدي الى الحاق خسائر في صفوف العدو.
ويبقى ان نشير الى قيام المقاومة الاسلامية بتصوير عملياتها بالفيديو، الامر الذي شكل سلاحاً جديداً، نجح في مضاعفة الاثر السيكولوجي للعمليات على حد تعبير مصادر الاسرائيليين.
ثالثاً - نتائج ودلالات: تندرج المؤشرات السالفة في خانة تأكيد نجاح المقاومة وتصاعد منحاها كماً ونوعاً، وهي تمكنت بفعل تراكم منجزاتها التكتيكية من تحقيق نتائج ذات ابعاد استراتيجية وهذا ينطبق على محطات واحداث ونتائج عكست اختراق اداء المقاومة للاطار التقليدي للمواجهة، ومنها تفاهم تموز وتفاهم نيسان ومجريات حربي تموز ونيسان، عملية الدبشة، مواجهة انصارية، الاعتراف الاسرائيلي المشروط بالقرار 425، اسقاط صورة الجيش الذي لا يقهر، والنموذج الطليعي الذي تشكله المقاومة في بنية الوعي العربي المعاصرة في زمن يتسم بالانكسار واختلال موازين القوى. وتحولها الى عنصر رئيسي في الموازين الاقليمية للصراع العربي - الاسرائيلي.
ان هذه المقاومة التي اثبتت قدرتها على تجديد نفسها وضخ مسيرتها بالحياة والحيوية، على رغم مضي 16 عاماً، تبدو وكأنها بدأت لتوها، لم يعترها الوهن او الترهل، في حين ان العدو في الطرف المقابل، يعاني من فقدان الهدف وغياب الحوافز. وباتت البيئة السيكولوجية لجيشه بيئة تنتابها اعراض الاحباط والقلق، وثمة الان في المؤدى العام لمسار المواجهة في الجنوب تفوق نفسي لبناني على الواقع النفسي الاسرائيلي، وثمة تفوق ايضاً في منظومة القيم والحوافز الحاكمة للمواجهة لدى الطرف اللبناني على الطرف الاسرائيلي وثنائيات المواجهة والصراع لدى الطرفين ثنائيات اعتزاز لدى اللبناني وانكسار لدى الاسرائيلي: استشهاد - موت مجاني، تحرير - احتلال، جهاد - حرب عبثية، ارض الصمود والبطولة - المستنقع اللبناني واللعنة اللبنانية، ابطال المقاومة - جيش كئيب. وثمة قاموس من المصطلحات الانهزامية والمأزقية التي تحفل بها تعليقات المسؤولين والمراقبين والمحللين الاسرائيليين.
ان الثقة بالنفس انهارت ("معاريف" 16-7-1996)، لقد تحول الحزام الآمن منذ زمن بعيد الى حزام انعدام الامن ("هآرتس" 9-2-1997).
لقد ربطنا انفسنا بذيلنا، نحن ضحية مهزومة، ان جنودنا مثل الشاخصات في حقل الرماية (افيغدور كهلاني، "هآرتس" 7-1-1997).
ان ما نشأ الان هو شيء من قبيل ميزان رعب يميل لصالح حزب الله (التلفزيون الاسرائيلي 31-3-1997).
اننا في علاقتنا مع جيش لحد مثل مدربي كرة القدم الذين يرجون لاعبهم المهزوم الذي اشتروه بثمن باهظ كي يصمد ("معاريف" 10-7-1997).
الى كل ذلك، ثمة تفوق ايضاً في الاطار السياسي - الداخلي للمواجهة، فهنا وحدة موقف لبناني رسمي وشعبي، حول المقاومة الى خيار وطني عارم، باتت معه ركيزة الموقف اللبناني في مواجهة التطورات الجنوبية والاقليمية، وهناك انقسام داخلي سياسي - اجتماعي طال ايضاً المؤسسة العسكرية، وفتح سجالاً على مصراعيه حول جدوى البقاء في الجنوب.
اذن في المحصلة ثمة تفوق في ايديولوجية المواجهة او ايديولوجية الصراع.
رابعاً - حول الصمود الشعبي: يذهب الحديث عن الصمود الى اتجاهين: اتجاه يرتبط بالمقومات المادية للصمود، وآخر يرتبط بالمناخ الفكري - السياسي الذي يشكل اطاراً مفهومياً عاماً للموقف الشعبي. وكلا الاتجاهين يصبان عند السؤال عن حال المجتمع المدني اللبناني في علاقته بالمقاومة. (وهذا ما سأتطرق اليه بعد قليل).
انه لمن الخطأ البين، ان نقصر معنى المقاومة على البعد العسكري وحده وان يكن هو ذروتها وتعبيرها الامثل، واختزالها بعيداً عن معناها الشمولي. فالذراع العسكرية تحتاج الى جسم يغذيها والى حاضنة توفر لها اسباب الحماية ومناخ الحياة.. من هنا يغدو الصمود الشعبي ركيزة حركة المقاومة وقاعدة استمرارها الطبيعية، كما ان الصمود الشعبي يبقى معتلاً اذا تجزأ او تطيف او تحزّب، ذلك ان بعده الحيوي يكمن في امتداده واستناده الى قاعدة متعددة الركائز مادية ووطنية ودينية.
ففي حين تبدو المقومات المادية ضرورة حيوية وفائقة الاهمية لضخ الموقف الشعبي بالقدرة على الاستمرار والثبات، وهذا ما تؤديه المؤسسات المدنية للمقاومة الاسلامية من اعمار البيوت ومعالجة الجرحى واحتضان الاسرى وتكفل اولاد الشهداء، فضلاً عما تقوم به مؤسسات الدولة المختصة، على رغم ما يحيط بها من اسئلة وملاحظات، الا ان ذلك كله لا يؤمن لشعبنا الكفاية المطلوبة التي توازي مقدار النزف المستمر بشرياً ومادياً والذي تتسبب به اعتداءات العدو اليومية.
وعلى الرغم من عدم الكفاية هذه، فان مستوى صمود شعبنا يدعو للفخر والاعتزاز، وقد تشكل حرب نيسان 1996 نموذجاً غنياً على ذلك.
من هنا امكن القول ان مرتكز الصمود وقاعدته الاساسية هو ايمان شعبنا بقضية مقاومة المحتل وتحرير الارض واستعداده للتضحية في سبيل ذلك.
وقد وفرت عوامل رئيسية مناخاً مؤاتياً للصمود، منها مصداقية المقاومة والاحساس بإمكانية التحرير واقترابه ووحدة الموقفين الرسمي والاهالي والتعاطف العميق من قبل المناطق الاخرى مع الجنوب ومناطق المواجهة.
الا ان ادبيات المقاومة وشعاراتها والمزج بين البعدين الديني والوطني للمقاومة والتضحيات، اعطى للصمود الشعبي والقدرة على تحمل اثمان المواجهة وآلامها من قبل ابناء الجنوب، معنى اكثر رسوخاً وابعد مدى، ففي الآلام والتضحية اقيم تماثل وجداني واخلاقي مع الرموز الدينية، فباتت التضحية والثبات على الآلام قيمة حسينية، وهي بهذا المعنى تصبح انتصاراً بكل حال وتصبح قيمة تفاؤلية مهما تكن النتيجة، تحريراً او استشهاداً.
وهي هنا تعاكس الانطباع الشائع، فالحزن العميق المتأصل بالمعنى الدنيوي يبدو عابراً بالمعنى الوجودي وطريقاً لسعادة وسكينة لا حدود لهما.
ومن الواضح ان البنية النفسية للصمود الشعبي بنية متينة، وهي تشكل قاعدة قيمية صلبة لهذا الصمود. يبقى ان نشير الى تقصير الدولة الفاضح في وضع استراتيجية صمود شاملة لاهلنا في الشريط المحتل انمائياً وخدماتياً وثقافياً وسياسياً بما ينمي حالة الممانعة الموجودة والتي بلغت درجات متقدمة في السنوات الاخيرة، وربما من الضروري مأسسة هذا الاهتمام وتحويله الى هم وطني شامل.
بالمحصلة، نقول ان الواقع الجنوبي الراهن في ظل معركة التحرير او حتى الواقع المستقبلي في ظل التهديدات الاسرائيلية الدائمة، من الضروري تبيئته اقتصادياً وانمائياً وفقاً لخصوصية موقعه وضرورات الحماية الدائمة والصمود الشعبي الراسخ.
لقد نودي مراراً بمجتمع المقاومة، والمقصود به عدم اختصاص المواجهة ببنية مقاتلة محترفة فقط، بل لا بد من تحمل المجتمع كافة مسؤولية المواجهة كل من موقعه ودوره المدني والعسكري، ونقول هنا ان مجتمع الصمود هو حالة دنيا مطلوبة لبنانياً راهناً ومستقبلاً ولا مناص من توفير مستلزماته المختلفة.
خامساً - أي موقع للمقاومة في ضوء اشكاليات التوحد والانقسام داخل الواقع اللبناني:
على شاكلة القضايا التي يحتويها الواقع السوسيولوجي اللبناني والتي سريعاً ما يخترقها بإشكالياته وتعقيداته ويفضي بها لاسباب بنيوية الى الهضم والادراج ضمن منطق هذه الساحة الطائفي والسياسي، تعرضت المقاومة لمحاولات الاخضاع نفسها، وبالتالي يطرح السؤال: أي موقع للمقاومة في ضوء اشكاليات التوحد والانقسام داخل الواقع اللبناني؟
يبدو بيناً، تطور الموقع الايجابي للمقاومة داخل الواقع السياسي والاجتماعي اللبناني، وبالعودة الى الثمانينات منتصفها واواخرها نستطيع ان نتبين كم كان يحيط بالمقاومة وعملياتها ميدانياً وسياسياً من الجدل والسجال وممارسات التضييق، والتي سرعان ما اخذت بالتبدد منذ بداية التسعينات، مستندة الى فاعلية المقاومة ونجاحها وتضحياتها وصدقها وتطور الموقف اللبناني الرسمي ايجابياً واتساع دائرة الاحتضان الشعبي اللبناني وتعثر حركة التسوية في مراحل متأخرة.
في الواقع الراهن تحوز المقاومة ما يشبه الاجماع الوطني، وتطل كخيار لا مناص منه لتحرير الارض وتقوية الموقف اللبناني الذي يفتقد اوراق الضغط في مواجهة العدو. وهي في هذا تبدو محظوظة اذ انها افلتت، فيما آلت اليه، خارج اليات الانقسام اللبناني طولاً وعرضاً، ويعمق انتاج هذه الاليات نظام سياسي مختل وسلطة اكثر اختلالاً.
هذا الانقسام الذي يطال تعيين الموظف مثلما يطال رسم سياسات بناء الدولة نشكر الله انه لم يتعدَ راهناً الى حدود خيار التحرير واحتضان المقاومة، بل على العكس من ذلك، شكلت المقاومة في محطات مفصلية مدخلاً توحيدياً ايقظ على نحو اقصى الاحساس بالهوية والانتماء الوطنيين (قانا، حرب تصفية الحسابات، حرب عناقيد الغضب، استشهاد نجل الامين العام لحزب الله).
ان بذرة الانقسام الداخلي تقوم على التنازع المصلحي الطائفي الفئوي والشخصي فضلاً عن الطائفي، لا اظن ذلك، (وان تكن هستيريا الانقسام اللبناني تجعل اللامعقول الوطني معقولاً طائفياً او فئوياً).
ان المقاومة وفقاً لتجارب السنين الماضية، وفي ضوء توازنات وطبيعة الواقع السياسي - الاجتماعي اللبناني، لم تكن، طريقاً للسلطة او للادارة ولا وسيلة من وسائل الانتفاع الجهوي بل كانت طريقاً لقلوب الناس.
وربما كمن في ذلك احد اهم معالم سمو هذه المقاومة وعصمتها الانسانية والوطنية وهو النأي بها عن التوظيف السياسي الداخلي الذي هو رواق المتاهة المغلقة.
ان تسليمنا بهذه الحقيقة والتسالم عليها بين الاتجاهات والقوى المختلفة يفضي بنا الى تنزيه المقاومة والتعاطي معها كخيار وطني توحيدي فوق نزاعاتنا وانقساماتنا وتجاذباتنا البائسة، وحينذاك مهما تكن الجهة المقاومة، يقفز السؤال الاشكالي الجوهري من حيزه الانقسامي الى حيزه التوحيدي، وتتحول صيغته من "من المقاوم" الى "من يقاوم" ولا تخفى بداهة الفرق بين الصيغتين فالاولى تختص بذات الفاعل والثانية تختص بذات الفعل.
بكلمة اقول: فلنقاوم، وانى يكن الموقع الفكري والسياسي للمقاوم، فسيأتين خراج المقاومة في جعبة الوطن وفي سبيله.
ان ثلاث اشكاليات تنطوي عليها علاقة المقاومة بالاطار الاجتماعي - السياسي على المستوى الوطني وهي اشكالية العلاقة مع السلطة، واشكالية العلاقة مع التشكيل اللبناني المتنوع طائفياً وسياسياً. واشكالية تعميم المقاومة وتوسيعها. وتتبدى هذه الاشكاليات كتحديات يناط بها استقرار المقاومة كمشروع وطني شامل.
ويبدو جلياً ان اشكالية العلاقة مع السلطة قد استقامت ورست على توازن سياسي راسخ وتعاون ميداني في مجالات حيوية، الا ان الدولة مطالبة باستكمال تعاطيها الايجابي بما يتجاوز الاطارين السياسي والامني الى مجالات اخرى اجتماعية تحتاجها الساحة الجنوبية بما هي الحقل الميداني لحركة المقاومة.
اما في ما يختص بإشكالية العلاقة مع التشكيل اللبناني الطائفي والسياسي، فثمة عوامل وتطورات عديدة ايجابية (كانت حرب نيسان واستشهاد نجل امين عام حزب الله ابرز محطاتها)، خطت بهذه الاشكالية خطوات الى الامام، فانفتحت قنوات التواصل والتفاعل، وخيم جو من الثقة العامة، بيد ان ما ينبغي بلوغه هو ان تنبني علاقات القوى والاتجاهات والطوائف مع المقاومة (وبدقة مع الفريق الذي يقوم بالعبء الرئيسي للمقاومة) أي المقاومة الاسلامية على اساس الانجازات والدور، لا على اساس المضمون الفكري والسياسي الذي يغدو خصوصية ايديولوجية وتعبوية يجب ان يحتويها التنويع اللبناني بانسياب وتلقائية دون اية حساسية او نفور.
اما الاشكالية الثالثة وهي اشكالية تعميم المقاومة وتوسعة اطرها والعمل على اشتمالها كل فئات وتنوعات الواقع اللبناني. فان المقاومة قد سعت عملياً باتجاه حلها من خلال صيغة "السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي" ونحسب ان هذا المشروع وقد سجل نجاحات اولية، قادر على ان يوفر اطاراً حسناً لمقاومة وطنية جامعة، وان يكون لا يزال باكراً اخضاع هذه التجربة للحكم والتقييم.