د. حسين رحال*(جريدة السفير اللبنانية)
بعد مرور عشر سنوات على تحرير لبنان (في معظم أراضيه وأسراه) في الخامس
والعشرين من أيار, يتبادر الى الذهن صواب مقولة الصحافي جورج نقاش عشية
الاستقلال اللبناني الاول؛ أن نفيين (سالبين) لا يصنعان وطناً. ذلك أن
الهوية الجامعة لمواطنين في وطن محدد لا تعرّفُهم بالسلب والنفي إنما هي
حيّز إيجابي مشترك في الثقافة والعيش المشترك, وفي بناء مشروع وطني ناجح
وقادر على البقاء أمام التحديات، وفي مقدم هذه التحديات الاحتلال الخارجي.
لماذا نتذكر مقولة جورج نقاش الآن ؟ لأن الجرح الذي وضع اصبعه عليه هو
نفسه الجرح الذي داوته المقاومة اللبنانية بتضحياتها وعملها الجاد على مدى
سنوات طويلة, في سياق آخر ومختلف تماماً, هو سياق إيجابي بنائي.
في عرف علماء السوسيولوجيا تَنبني الهوية الثقافية لجماعة ما أو مجتمع ما
انبناءً. هي تماهٍ واع مع انتماء ومع ثقافة ومع مصير مشترك, ومع أمل وثقة
بقدرة الجماعة على تخطي الصعوبات والتمايز الناجح عن غيرها من الجماعات.
وقد مثّلت المقاومة اللبنانية كل هذه الدلالات المتعلقة بالهوية
اللبنانية؛ فهي مثلت النجاح الحقيقي (وربما الوحيد حتى الآن) في إثبات
قدرة المجتمع اللبناني على تشكيل بُنية فعالة قادرة على وضع الاستراتيجيات
وتنفيذها في مواجهة بُنية غربيّة ـ حديثة، هي الكيان الاسرائيلي،
والانتصار عليها، استناداً الى ثقة بنفس الجماعة وشبابها وبعقولهم (التي
اعترف العدو بحداثتها عندما تحدث عن حرب أدمغة بين جنرالاته وقادة
المقاومة).
من هنا فإن مبدأ الثقة بقوة لبنان لا بضعفه، هو المدماك الاول في نجاح
مشروع الاعتماد اللبناني الذاتي على الجماعة الوطنية، لا على الغير، في
حماية الوطن وفي بنائه.
لم يعد الضعف سبيلاً الى الالتحاق بأي محور أو حلف دولي يأتي على النقيض
مع العمق الجغرافي والثقافي المحيط بلبنان. على عكس الخطاب السياسي
اللبنانوي ـ اليميني الذي جعل من الضعف مقدمة لطلب الحماية الدائمة من
الخارج. في حين أن القوة الذاتية التي مثلتها تجربة لبنان المقاوم ككل،
حكومة وجيشاً وشعباً، أبدلت الثقافة بأخرى تعتمد على كون قوة لبنان تحميه
من التدخل الخارجي وتعمق صلاته بعمقه العربي بدل أن تكون على حسابها.
وبهذا المعنى فإن الوطنية اللبنانية تنبني ضمن العروبة وليس على النقيض
معها. هنا تتجلى الخصوصية اللبنانية من خلال نموذج المقاومة باعتبارها
مدخلاً الى العالم العربي . وبهذا تُلبى الحاجة الى إبراز التمايز
والتماثل معاً، فهما بعدان من أبعاد هوية واحدة وليسا نقيضين يجران
الانقسام والانفصام داخل الثقافة الوطنية الواحدة.
هذا بالضبط ما تشير اليه السوسيولوجيا الثقافية الحديثة في تحليلها
لموضوعة الهوية باعتبارها تضم أبعاداً متعددة في شخصية واحدة متميزة ( وهو
الاتجاه الذي تأثر به الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابة
الهويات القاتلة).
ولعل هذا ما يسلط الضوء على الأزمة العميقة والانفصام الذاتي الذي عانت
منه الثقافة اللبنانية ويلخصها ذلك السجال الدستوري عن لبنان ذي الوجه
العربي في مقابل الوجه الآخر غير العربي (الافرنسي والغربي).
لقد شكّلت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف حسماً نظرياً لهذا الانفصام
بتأكيد انتماء لبنان وهويته العربية ودوره الواضح في الصراع ضد الاحتلال
الاسرائيلي. ورغم أهمية هذا الحسم الدستوري لأزمة الهوية, فإنها بدون
نموذج حقيقي، تبقى شاعرية سياسية، وقد احتاجت الوثيقة الى المقاومة لتكريس
هذه الهوية وهذا الانتماء بدماء شهدائها وبسلوكها الوطني بناءً حياً.
ولم يقتصر نموذج المقاومة الناجح على تكريس الهويتين الوطنية والعربية
للبنان، بل مزج بينهما في «الرمز» الذي يشكل عماد الذاكرة الثقافية
الوطنية؛ رموز المقاومة اللبنانية من أبسطها، وهو الراية الصفراء، الى
أعظمها، وهم الشهداء, باتوا رموزاً للهوية العربية بل لكل المناضلين في
العالم؛ هكذا يغدو السيد حسن نصر الله و الشهداء السيد عباس الموسوي وراغب
حرب وعماد مغنية، مثلاً, رموزاً ثقافية عن اللبنانية، الداخلة الى أعماق
العروبة وقضيتها المركزية فلسطين.
وبوصف الهوية تماهياً مع انتماء وتاريخ مشترك فان سني المقاومة بشقيها:
الاول منذ العام 1947 ضد الاعتداءات الإسرائيلية التي يمكن وصفها بالدفاع
السلبي, وبشقها الثاني: منذ العام 1978 وأكثر وضوحاً وهو العام 1982 والذي
يمكن تسميته بالدفاع الايجابي المنظم والمبادر, قد جعلت منها مساوقة
للتاريخ اللبناني وجزءاً ممتزجاً به, توحّدُ الذاكرة الجماعية لكل
اللبنانيين؛ فالشهداء الذين سقطوا باعتداءات أو بعمليات فدائية مقاومة ضد
العدو، يُعدون بعشرات الآلاف ويمتدون على كامل رقعة البلاد من أقصى الشمال
(عكار والهرمل) الى أقصى الجنوب (شبعا وعيتا الشعب). هكذا تمتزج الذاكرة
مع الحاضر, الثقافة الموحدة للجميع مع المصلحة العليا للشراكة.
يتوّج أيار العام 2000 هذا التاريخ كحدث مؤسس في السياسة وفي الايديولوجيا
الوطنية للبنان المستقل. حيث المقاومة مؤسّسة للسيادة وموحّدة للدولة
جغرافياً وبشرياً.
وفي حالة بلد كلبنان، أمام حالة عدو كالكيان الصهيوني، يصبح وضع السيادة
في مواجهة المقاومة وضعاً للدولة في مواجهة إحدى مقدماتها التأسيسية؛ بدون
مقاومة لا وجود للسيادة ولا للسلطة الواحدة, بل وطن منقوص الوحدة مقسم بين
شعب تحت الاحتلال وقسم خارجه.هنا تتجلى الخصوصية اللبنانية في علاقة بقاء
الدولة بوجود المقاومة وليس بتناقضهما.
بيد أن الثقافة السياسية اليومية المبسطة تلجأ الى تزييف للواقع الحقيقي
عندما تستخدم المفرادات في غير معناها ومدلولها, إذ تضع المقاومة في تضاد
مع الدولة في مرحلة عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على مواجهة الاخطار
والتهديدات المعادية.
من زاوية أخرى تبدو الصيغة اللبنانية التي حافظت عليها المقاومة غداة
النصر في العام ألفين مرهونة ببقاء المقاومة قوية، وهي التي لم تفعل كبقية
المقاومات المنتصرة في فرنسا والجزائر وفيتنام، حيث تحولت السلطة في كل
بلد محرر الى جزء من المقاومة. ولأن المقاومة اللبنانية لم تبادر حينها
الى جعل الدولة تحت سلطة المقاومة، وهو السياق العالمي الطبيعي، وذلك
حفاظاً على الصيغة اللبنانية القائمة على التنوع والحفاظ على الخصوصة
اللبنانية بما فيها الطائفية، إلا أن ذلك لا يعني مطلقاً عدم التمسك بالحد
الادنى من مفاعيل التحرير، وحفظ نضالات وتضحيات اللبنانيين، وهو ادخال قيم
المقاومة ـ وليس سلطتها ـ لتكون جزءاً محركاً لقيم الدولة المحافظة على
الصيغة والتنوع.
ومع ذلك فإن الأمر في لبنان أكثر خطورة وجدية من كل ما طرح، ذلك أن الصيغة
اللبنانية الحالية مهددة بالتدمير من الخارج لو فقدنا المقاومة، إذ كيف
يكون هناك تنوع اذا تعرضت فئة لبنانية برمتها (وهي الفئة السياسية
المعادية لاسرائيل من كل الطوائف) وطائفة كاملة للتهديد بالإبادة، مع عدم
قدرة الدولة على حمايتها بدون سلاح المقاومة؟ ماذا تعني التهديدات
الاسرائيلية المتكررة تحت عنوان «عقيدة الضاحية»، وهي تهديدات لم تحرك أيا
من المسؤولين اللبنانيين للقيام بجهد دولي لفضح الابتزاز الاسرائيلي
للعالم، بارتكاب فعل الإبادة علناً، للمدن والمناطق السكنية وللأهالي
فيها؛ هي خطة عدوانية تستهدف لبنان ككل، لكنها تستهدف تحديداً طائفة معينة
تحتضن المقاومة في الضاحية والجنوب والبقاع، تتوعدها اسرائيل علناً
بالابادة وبتدمير بناها المدينية والقروية وبتهجيرها (للمرة العاشرة على
الاقل) وربما هذه المرة الى خارج لبنان. إن الخطر الداهم والتهديد
الاسرائيلي المباشر للطائفة التي تحتضن المقاومة بالابادة الديموغرافية
والجغرافية هما تهديد بالغاء الصيغة اللبنانية عبر الغاء أحد مكوناتها،
وتهديد للعيش المشترك، اذ عند السماح بتنفيذ هذا التهديد، مع من سيتعايش
بقية اللبنانيين.
ان استهداف سلاح المقاومة بهذه الحدة من قبل أطراف لبنانيين يمثل رسالة
غير تعايشية الى عموم الطائفة المحتضنة للمقاومة بأن هذه الاطراف، على
استعداد لتعريضها للإبادة وتحويل كل مناطقها الى نموذج لتدمير الضاحية
الذي جرى عام 2006، وبالتالي فالجمهور الذي تصله هذه الرسالة يدرك ان
البعض في لبنان ينقلب على الصيغة اللبنانية وعلى العيش المشترك الذي حمته
وصانته المقاومة .
ان البعض في لبنان وربما عن وعي، لا يمانع في أن تتحول قرى الجنوب
والضاحية والبقاع، كلياً أو جزئياً، الى انموذج أوسع لصبرا وشاتيلا تحت
حجج شكلية مثل «ثنائية السلاح» (وهي ثنائية موجودة طائفياً وفئوياً داخل
الدولة من خلال مرجعية قرار قوى الأمن الداخلي والتباسات دورها خلال
السنوات الخمس الأخيرة) وذلك بتعريض صيغة لبنان والعيش المشترك فيه
للإلغاء تحت وطأة «عقيدة الضاحية» الاسرائيلية.
إن أي سلطة لبنانية سياسية أو تنفيذية أو من السلطات الأخرى هي بحكم منطق
الدستور غير شرعية إذا تناقضت مع ميثاق العيش المشترك، وبما أن المقاومة
هي جزء من حماية السيادة للبنان ككل، وفي الوقت نفسه هي عامل حفاظ وجودي
من الانتقام والإبادة الاسرائيلية لما يقرب من ثلث اللبنانيين، فإن الحفاظ
على المقاومة وقوتها هو في صلب العيش المشترك، وأي سلطة تعادي المقاومة هي
سلطة غير شرعية وساقطة بموجب الدستور، سواء ذكرت في بيانها الوزاري أم لم
تذكر بند المقاومة في الدفاع او التحرير.
ما عاد بإمكان أحد التنكر لهذه العلاقة العضوية بين قيم المقاومة وهوية
لبنان. هذا إذا فكرنا من داخل النموذج اللبناني الذي ارتضاه الجميع صيغة
فريدة وتعدداً يستوعب خصوصيات كل فئاته ولا يطمسها، بدلا من ان يفكروا من
خارج النموذج، أي بالمنظار المعادي للمقاومة، سواء أكان منظاراً اميركياً
أم حتى منظاراً اسرائيلياً؟
(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية