أمل شبيب ـ خاص "الانتقاد"
1391 اسم لمنشأة سرية تخفي خلف اسوارها وزنازينها قصص وعذابات مئات الأسرى
العرب واللبنانيين ممن دخلوا إليها وشهدوا مرارة الاعتقال على مدى سنوات
واشهر وايام...
1391 السجن السري الإسرائيلي أو (غوانتنامو اسرائيل) يبعد عن مدينة القدس
بمسير حوالى الساعتين تقريباً، ويقع بمحاذاة بلدة أم القطوف، على زاوية
موقع عسكري تابع لجهاز أمن الأستخبارات العسكري ـ الموساد ـ تحديداً الوحدة
504، وهي وحدة من جهاز الاستخبارات "أمان" تمّ تشكيلها لتعمل في المناطق
الحدودية مع لبنان بهدف تجنيد الجواسيس والعملاء ومراقبة جنوب لبنان خصوصاً
والأراضي اللبنانية عامة.
ظلّ هذا السجن سريّاً كما ارادته "اسرائيل"،لا اسم له ولا عنوان. هو
اللامكان بالنسبة لنزلائه من الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين وبعض العرب.
هو الجحيم أيضاً وربما البرزخ في رحلة العذاب نحو الموت، فالداخل إليه
مفقود، وفي سجلات الموساد محكوم عليه بالإعدام، وتنفيذ الحكم في أية لحظة.
يقع السجن داخل معسكر كبير جداً، مزنّر بالأسلاك والأشجار والألغام
والأبراج المسلّحة بالرشاشات، تجري فيه الفرق الخاصة ورجال الإستخبارات
الرمايات والتدريبات، وتهبط فيه الطائرات المروحية القتالية وطائرات النقل،
كما يحتوي على ثكنة تضم مختلف أنواع الأسلحة.
من الخارج يبدو المكان كأنه موقع عسكري اسرائيلي عادي جداً، فالإجراءات
الأمنية المتخذة في محيطه تقتصر على دوريات الحراسة فقط، وهي لا تثير الشك
والريبة عملاً بقواعد التمويه والتخفي، ويعتبر السجن السري داخل هذه الثكنة
من أكثر الأماكن غموضاً فيها، ولم يكن مصرّحاً لجميع الجنود في الثكنة
الاقتراب منه، ولم يكن مسموحاً إلاّ لفئة من المعنيين الدخول إليه.
يتألف السجن من الخارج من ساحتين، واحدة تستعمل للتعذيب، وساحة أخرى في
وسطها قفص حديدي مقفل من جميع الجهات، وحولها العشرات من غرف التحقيق
المختلفة، ومستوصف الى جانب مطبخ للجنود وغرف الشرطة وغرف الحراسة والعشرات
من الزنازين الصغيرة التي لا تتسع إلا لشخص أو شخصين لا تتجاوز بضعة
اشبار، ويعلوها شريط شائك وأماكن الحراسة، وتلفّه بوابات كهربائية وكاميرات
مراقبة من كل الجهات. بناه البريطانيون في ثلاثينيات القرن الماضي إبّان
انتدابهم على فلسطين، مجهّز مع بعض التعديلات ليصبح مكاناً للتحقيق وليس
للتوقيف.تحيط به بأشجار الصنوبر البري والسرو والجدران المرتفعة، وفيه برجا
مراقبة يوفران الحراسة العسكرية المكثفة لكل المنطقة، وهو مختلف عن غيره
من السجون، فهو ليس معرّفا على الخرائط، كما تم محوه عن الصور الجوية.
ظلّ هذا السجن سرياً الى أن اكتشف مكانه الحاج مصطفى الديراني الذي اختطفته
وحدة كوماندوس اسرائيلية من منزله في قصرنبا في البقاع ونقلته في إحدى
ليالي شهر ايار/مايو العام 1994 الى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة
للتحقيق معه بهدف معرفة مكان أحد الطيارين الإسرائيليين الذي اختفى في
لبنان بعد سقوط طائرته أثناء الإغارة على مواقع للمنظمات الفلسطينية شرق
مدينة صيدا.
يقول الديراني الذي امضى داخل زنازين هذا السجن ثماني سنوات، إن العشرات من
الأسرى اللبنانيين قد مروا على هذا السجن، وامضوا فترة التحقيق قبل أن
ينقلوا الى المعتقلات المعروفة باستثناء عدد قليل تم احتجازهم لسنوات طويلة
"وأنا واحد منهم".
يضيف "الديراني": لهذا السجن قوانينه الخاصة، فأساليب التعذيب تمارس بعنف
الى حد القتل أو التسبب بالإعاقة. منذ اللحظة الأولى لاعتقالي انتقلت الى
ذلك السجن بعدما تمّ وضع غطاء حاجب للرؤية على وجهي، وربطوا يديّ خلف ظهري
مقيّدتين بالأغلال، وغلّت قدماي بالأصفاد القاسية التي ما زالت آثارها حتى
اليوم، وكنت أنا كغيري ممن دخلوا الى هذا السجن، لا نعرف اين نحن ولا في اي
سجن ننام. كانت العبارات الوحيدة التي نسمعها من الجنود: أنتم على القمر،
أنتم في قبر، أنتم خارج "اسرائيل"، انتم في غواصة، أنتم في الفضاء وغيرها
من العبارات التي تعمّق شعورنا بالعزلة، ولم نكن نعرف الليل من النهار.
بعد الاعتقال تأتي مرحلة التحقيق الانتقامي داخل غرف إفرادية، حيث يستخدم
السجّانون ابشع أنواع التحقيقات تبدأ من إجبار السجناء على خلع ثيابهم
وابقاء السجين عارياً امامهم وممارسة ابشع انواع التعذيب النفسي
واللاأخلاقي، ووضعه تحت درجة المكيفات الباردة والقارسة، ثم يأتي السجّان
ليصبّ على المعتقل المياه الباردة والساخنة في الوقت ذاته، بعدها تأتي
مرحلة الضرب المبرّح يصاحبها الركل بالأرجل وصولاً الى مرحلة هزّ السجين
بطريقة جنونية بشعة، ووضع الأسلاك الكهربائية على جسده. كل هذا والسجين
ممنوع من الأكل والشرب إلاّ القليل القليل، يرافقها أصوات الموسيقى العالية
تصلّ الى حد الإصابة بالجنون أحياناً، دون رادع إنساني أو أخلاقي.
طوال فترة الإستجواب الطويلة، يُجبر المعتقلون على الجلوس إلى كرسي بلا
ظهر، وتوجّه إليهم اللكمات والضربات القاسية، كما يتم دفعهم عن الكرسي
وهزّهم وإجبارهم على أكل رماد السجائر، الى جانب التهديد بالاعتداء على
أطفالهم ونسائهم وعيالهم.
بعد التحقيق، يُنقل السجين الى الحبس الإفرادي، وهو عبارة عن زنازين صغيرة
رطبة ووسخة مليئة بالحشرات المخيفة والبراز والروائح النتنة التي تفوح من
كل مكان، وهي خالية من النوافذ، لا يدخلها سوى ضوء بسيط جداً عبر فتحة
صغيرة طوال الوقت. كانت الجدران مطلية باللون الأسود، وكان من المستحيل أن
نرى او نقرأ اي كلمة داخل هذه الزنازين، وكانت الأسرّة حجارة من الباطون
المسلّح.
معظم الزنازين لم تكن تحتوي على حمامات أو مياه جارية أو حتى صابون أو اي
مستحضرات أخرى ليغتسلوا بها، ويستبدلونها بفوط وقطع قماش رائحتها كريهة.
ولا يمكن أن ننسى الحوض "السطل" الذي نادراً ما يكون فارغاً، والذي كان
يستخدم لقضاء حاجاتنا، وحنفية الماء في الزنزانة التي كان يتحكم بفتحها
حارس خفي لا يرى، لذا كان الحفاظ على النظافة الشخصية من الأمور المستحيلة،
وكان السجّانون يتعمّدون إصدار الأصوات في الزنزانة، ليوقظوننا ليلاً
بالقرع على ابواب الزنزانة بعنف أو عبر اصدار اصوات لمنعنا من النوم.
كان الضرب المبرّح والإبتزاز والتهديد والإعتداء مع ما يرافقه من تعذيب
نفسي قاهر من الأمور اليومية الأساسية. كان المعتقلون يتعرّضون لتعذيب عقلي
أدّى إلى ظهور "أعراض نفسية اخطرها الفزع، الخضوع، والضعف، نقص في النوم،
وقلة في الحركة. كان استبعاد أي اتصال إنساني سواء عبر محامين أو أفراد من
الأسرة أو معتقلين آخرين، أو حتى حراس وسجانين، وهذا بمجمله أسلوب تعذيب
مدروس يهدف إلى الحد من القدرة على مقاومة الاستجواب والتحقيق وإجبار
المعتقل على أن يكون خاضعاً بشكل كامل للمحققين. هذه الظروف إلى جانب آلام
التعذيب أو حتى التهديد باستخدام التعذيب، مع الخوف من القتل أو مجرد
التفكير في أنك شخصٌ منسي، تجعل من المعتقلين مثالاً حياً للفزع المؤذي
نفسياً.
مثل هذه الممارسات وأسوأ منها تحدث بشكل مألوف ويومياً في سجن 1391.طوال
ثماني سنوات كان الحاج مصطفى الديراني يتقصّى المكان في محاولة منه لاكتشاف
مكان احتجازه، ففي كل مرة كان يُنقل فيها الى المحكمة بواسطة صندوق من
الخشب والحديد تحت حراسة رجال جهاز الأمن والإستخبارات، كان يحاول استراق
النظر الى المكان لكن من دون جدوى، فقرر رفع صوته والتصريح ربما يجد في ذلك
أملاً.
يضيف "الديراني" بعد الشكاوى التي قدمناها في المحكمة عن المخالفات في
التعذيب واساليب التحقيق عام 2000 قام المحامون والحقوقيون وممثلون عن
منظمة حقوق الإنسان واعضاء في لجنة الكنيست الصهيوني ومنظمات إنسانية دولية
ومحلية وحتى لجنة الصليب الأحمر الدولي، بتقديم طلبات دخول الى هذا السجن
للتعرّف اليه والى وضعه ومعرفة مدى شرعية هذه المنشأة وعملها، لكن جميع
الطلبات رفضت وأجبر جهاز الأمن الإسرائيلي على الاعتراف بوجود سجن سري في
مكان ما يرمز إليه برقم 1391، لكن "إسرائيل" برّرت الدوافع لإبقاء هذا
السجن سرّياً وكان لها ما أرادت.
1391، سجن سري ولا يزال حتى اليوم لغزاً غامضاً، فلا أحد، باستثناء عدد
قليل من قادة الأمن والحكومة ( الإسرائيلية)، يعرفون عدد المحتجزين فيه،
وقد عبّرت عن ذلك المحامية الإسرائيلية ليئا تسميل المتخصصة في الدفاع عن
الفلسطينيين، عندما قالت: "لا فرق بينه وبين سجن يديره الديكتاتوريون
العنصريون من جنوب أفريقيا". وهي أول من رفعت دعوى للتحقيق حول هذا السجن
بعد الشهادات الكثيرة حول انواع التعذيب النفسي والجسدي التي أدلى بها
المعتقلون في داخله، لكن الدعوى رُدّت بذريعة الحفاظ على امن "اسرائيل".