عن تجربة في معتقل انصار
المؤلف: ابراهيم دعبول *
الملخص: لم يكن غزو "اسرائيل" للبنان عام 1982 مجرد حملة عسكرية، بل جاء هذا الغزو ليقلب الاوضاع القائمة آنذاك من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية، والفكرية والاجتماعية والنفسية... وهذا الغزو لم يكن بسبب بضعة صواريخ كاتيوشا انطلقت من جنوبي لبنان، ولا بسبب اغتيال دبلوماسي اسرائيلي في احدى سفارات "اسرائيل" كما ادعى العدو... ان هذا الغزو لم يكن الا حلقة في سياستها الرامية الى اخضاع المنطق برمتها وتفتيتها الى كيانات طائفية منعزلة عن بعضها ومتناحرة في ما بينها، ولبنان هو الحلقة الاضعف والقابلة للتطويع كما تراءى للعدو في استراتيجيته هذه... لكن حسابات المحتل لم تكن مطابقة للبيدر. وكان الرد اكبر مما توقع على ايدي ابطال المقاومة الوطنية، ولم يدرك ما يختزله شعبنا من طاقات هائلة لم تكن في حسبانه، وابان غزوه لجنوبي لبنان قام العدو بأوسع حملة اعتقالات شملت العديد من ابناء شعبنا وزج الآلاف في معتقل انصار، لاعتقاده بان هؤلاء ليسوا الا رموزاً لـ"التخريب" و"الارهاب" على حد زعمه... وحاول فصل هذه الرموز عن محيطها وتصويرها بانها مصدر خطر عليه وعلى المحيط في وقت واحد... واظهار هذه الرموز بمظهر الدخيل وبان لا علاقة لها بمفاهيم شعبنا وقناعاته وتقاليده وعاداته...
وظن العدو انه يملك العصا السحري وانه قادر على التصرف كيفما شاء وان كل شيء قد اصبح في قبضته وانه القوة الوحيدة وما من احد يستطيع مقاومتها، وبانه حسم الموقف لمصلحته والى الابد ولم يعد امامه سوى التطبيع. وعلى كل الاصعدة لقد تصرف العدو بهذه العقلية المغرورة والمتغطرسة ولم يقف عند حدود داخل معتقل انصار وخارجه...
ومعتقل انصار كان حقلاً لتجارب العدو حيث لم يترك وسيلة الا واستخدمها لقهر الانسان واذلاله... وحاول ان يختزل المسألة ويختصرها من كونها قضية شعب الى مشكلة لا تتعدى مجموعة افراد، وعمل على تدمير روابط هؤلاء بمحيطهم وبيئتهم وعائلاتهم، كما وان جماهير شعبنا ليست بتصوره سوى مجرد اعداد ولا يمكن في يوم من الايام ان تنظم نفسها وان تتحول الى قوة منظمة تستطيع التغلب عليه او اللحاق به، من هنا كان تركيز العدو الحثيث على بعثرة قوانا وتشتيتها... ويستحيل لقوة مبعثرة ان تنتصر على قوة منظمة، فالتنظيم سر قوتها، ومن هنا اقول ان انصار - المعتقل كانت منظمة في مجابهتها ومواجهاتها للعدو.
فالمجابهة المنظمة كانت خيار انصار الوحيد، لذا فرضت نفسها واقعاً لا بد منه - لذا لا شيء في انصار اهم من المواجهة مع العدو - ولا قضية تتقدم على قضية المواجهة...
ولقد كان باستطاعة أي معتقل ان يكتشف في انصار نقاط القوة ونقاط الضعف لدى العدو... ثم اكتشاف ذاته بالمقابل امام العدو... اذ ان العدو يعتمد عملاً منسجماً ومنظماً ومدروساً في شتى المجالات، ويعمد الى اخفاء نقاط ضعفه بكل الوسائل.
بيد ان للعدو نقاط قوة يعتمد عليها بشكل اساسي في صراعه مع شعبنا، كما انه يلجأ الى اظهارها في كل مناسبة، لاثبات قوته وتفوقه. كقوته العسكرية مثلاً، او تقنيته، فقوته العسكرية هي من مقومات وجوده الاساسية وبدونها يستحيل استمراره.
اما نحن بالمقابل فان ما نملكه من مقومات الحياة والاستمرار يفوق بكثير ما يملكه العدو.. وما يختزنه شعبنا من امكانيات تتيح له تحقيق النصر وقلب الاوضاع لمصلحته هو بلا شك ما يفتقر اليه العدو.. وهذا ما تثبته الاحداث يوماً بعد يوم... فلو قدر تحويل تلك الامكانيات الى قوة على ارض الواقع لتغير كل شيء...
ان خوف العدو ومصدر قلقه الدائم هما في عملية تنظيم قوانا الذاتية وحشدها في خندق المواجهة، معه... لانه بذلك يكون قد تم وضع جميع الطاقات في موقعها الصحيح، وتكون بذلك قد سدت كل الثغرات والنوافذ التي تشكل احد عوامل بقائه واستمراره. ان ما ينطبع في مخيلة من ساقه العدو الى انصار هي تلك الهشاشة واللامنطقية التي تحكم كل سلوك وتصرفات جنود وضباط العدو.. والارتباك امام أي عمل منظم وواعٍ وجدي يقوم به المعتقلون... فهناك قوة حتى في صمت المعتقلين. فالتراب والحجارة والصخور والشجر والهواء هي للمعتقلين وليس للغزاة فهذه حقيقة صارخة في اعماق كل من وجد فوق ارض انصار... وكل جندي يقود مجزرة او يراقب في برج حراسة او يحرس باب زنزانة تفوح منها رائحة انصار، عندما اخذ تحركنا طابعاً منظماً، وادركنا تماماً ان العدو لا يعتمد على قوته العسكرية وحسب بل يستمد قوته من النزاعات القائمة داخل صفوفنا، وان هذه النزاعات هي التي تعطي قوته العسكرية تفوقاً كاسحاً. وهذا ما يبدو واضحاً في صراع العدو مع الشعوب العربية...
اذاً، العدو يفقد الكثير من قوته وتفوقه اذا ما تمت معالجة كل مشاكلنا الداخلية وكل النزاعات القائمة على قاعدة الصراع مع العدو، وحينها يكون العصر الاسرائيلي قد بدأ بالأفول...
والعدو بالمقابل يدرك اهمية الخلافات وموقعها في استراتيجيته، وبدون هذه الخلافات داخل صفوف شعبنا يستحيل ان يتقدم خطوة واحدة الى الامام، او ان يحقق أي نصر جزئي او كلي... وهي تشغل جزءاً كبيراً من سياسته الخارجية لجهة تغذيتها وتأجيجها..
ونذكر على سبيل المقال ان العدو في معتقل انصار كان يعمد الى توزيع كميات من الطعام غير كافية للجميع بهدف احداث بلبلة ونزاعات بين المعتقلين، كما كان يعمد الى توزيع ملابس غير كافية ايضاً للجميع وللغرض نفسه، وكان يلجأ الى ايقاف ضخ المياه لساعات طويلة عمداً لخلق المشاكل بين المعتقلين.. وهذا ما اشرت اليه آنفاً في (سيجارة سيلون)، ولكن سرعان ما تم اكتشاف الاعيب العدو وخططه، وخلفيات كل ما يدور في المعتقل وانعكاساته على المعتقلين ومن ثم التصدي لكل ذلك والقضاء على ما من شأنه ان يسيء الى وحدتنا... وتماسكنا في وجه العدو...
(*) مدرس ومعتقل في انصار سابقاً.