"اسرائيل" والتعذيب
المؤلف: الدكتور محمد احمد النابلسي / الامين العام للاتحاد العربي لعلم النفس
الملخص: استخدمت "اسرائيل" وما تزال كافة انواع التعذيب ضد الاسرى والمعتقلين في سجونها، وحسب الطب النفسي، فان المحققين "الاسرائيليين"، استفادوا من العلم والطب النفسي لانتزاع الاعترافات من المعتقلين وتحويلهم الى حقول تجارب،
هذا الموضوع الذي يجول في كيفية انواع التعذيب التي مارسها الفرنسيون والاوروبيون عموما، ولاحقا الامريكيون، في فترات مختلفة، يستعرض الانماط التي استفاد منها "الاسرائيليون" والتي اضافوها الى اشكال التعذيب.
وفي الموضوع، سوف يلاحظ القارىء، عناوين علمية جديدة متخصصة، لكنها عناوين او مصطلحات لا يعرفها، القارئ لكنه يدرك سلفا تفاصيلها.
التأثير على الوعي
ان العلوم النفسية لم تخترع التعذيب ولكنها ساهمت في تحويله الى تقنية فهذه العلوم قدمت معلومات وافكارا ووصفات لكل المؤسسات البوليسية في العالم التي تستخدم هذه المعطيات لاجبار الافراد على البوح بالمعلومات او لاكراههم على تغيير قناعاتهم. والواقع ان افتقاد التعريف الدقيق للشخصية السوية (الطبيعية) يجعل الفصل دقيقا بين الشفاء النفسي وبين عودة الشخص الى طبيعته (التي لا نملك لها تعريفا). الامر الذي يغري المعالج والاختصاصي ـ البوليسي باجتياز هذا الفاصل. وهو اجتياز يساوي بداية اساءة استخدام العلوم النفسية. وهي اساءة تحدث بدرجات مختلفة باختلاف الدافع لهذا الاجتياز. ولعل ابسط درجاته الدعاية التي تستغل نقاط ضعف المستهلكين وتدعوهم لاكمالها (الوصول الى السواء). من هنا يبدأ التأثير على الوعي باستغلال نواقص لدى المستهلك وهي نواقصه وليس الى مواجهته بها (والا كان الوضع مطابقا لما يسمى بالعلاج الوحشي).
وبمراجعة المحاولات البوليسية للتأثير على الوعي نجد من المفيد ايراد بعض الامثلة:
أ ـ في اصلاحية ( Wallo-Wallo) في ولاية واشنطن استخدم المدير وسائل اصلاحية فريدة من نوعها. فقد كان يجبر المساجين على العودة الى طفولتهم (نكوص اجباري) عن طريق اجبارهم على ارتداء القماط (اللفافة) وعلى تناول الحليب بالرضاعة وعلى الزحف ايضا. وقد خضع لهذا العلاج حوالي الالف سجين وعلى امتداد اثني عشر عاما. وقد اطرى بعض السلوكيين من المتخصصين هذه النظرية العلاجية!!
ب ـ في ايرلندا الشمالية سادت ولفترة الطريقة التالية: يلبس المسجون قناعا له فتحة فقط مكان العينين ويتضمن عازلا سمعيا. ثم يحرم الشخص من النوم نهائيا خلال الايام الاولى من احتجازه ويجبر ايضا على البقاء في وضعية الوقوف (ولا يسمح له بالاستلقاء) وكذلك فهو يحرم من الطعام خلال هذه الايام.
ج ـ يعترف الجنرال الفرنسي ( Massu) في مقابلة اجراها فرانسوا شاليه (على القناة الثانية الفرنسية) باستخدام الفرنسيين لتقنية "الاستجواب العميق" في الجزائر خلال فترة اواخر الخمسينيات. وتتضمن هذه التقنية الحرمان الحسي للشخص لبضعة ايام (أي منعه من الاكل والنوم والسمع والنظر والاستلقاء.. الخ).
د ـ في البرازيل جرى الحديث عن تقنية "الضجة البيضاء" فبدلا من الصمت المطبق (الهادف للحرمان الحسي ـ السمعي) كان السجين يتعرض الى ضجة طاغية كفيلة بان تطغى على ما عداها من الاصوات (بما فيها صوت السجين نفسه). وبهذه التقنية يصبح الشخص عاجزا عن التمييز بين ما هو واقع وبين هواماته وهلوساته الشخصية. مما يضعه في حالة اصطناعية من تفكك الشخصية.
هـ ـ لقد طورت بلدان ما وراء الاطلسي وابتداء من العام 1956 تقنيات متطورة لتفكيك الشخصية. وكلها متمحورة حول عزل السجناء بهدف تعطيل دماغهم والغاء اية مقاومة عندهم. اضافة الى التسبب بالقلق والاذلال المعنوي وصولا الى احداث تناذر دماغي يحول الشخصي الى ودود مطواع على استعداد لتقبل الايحاءات وصولا الى العجز عن سيطرته على نشاطه الذهني.
و ـ رأي الطب: اجرى البروفسور زيبيك ( Zubec) دراسات على اشخاص تعرضوا لتجربة الحرمان الحسي. وخلص من دراساته الى ان الاشخاص الذين يتعرضون طويلا لهذا الحرمان تلاحظ لديهم تغيرات على صعيد تخطيط الدماغ بحيث تصبح موجات هذا التخطيط بطيئة. كذلك جرت بحوث تحت اشراف وزارة الدفاع الكندية. وقد اثبتت هذه البحوث ان اقامة قصيرة في الزنزانات الانفرادية كانت تكفي لاحداث تهيؤات هذيانية لدى المسجون. وتتحول الى الهلوسة مع ازدياد مدة الاقامة. وكان الباحثان سميث ولويتي قد اثبتنا منذ العام 1959 بان الاحتجاز في غرفة صامتة من شأنه ان يؤدي الى اضطرابات نفسية تتفاوت حدتها وخطورتها بحسب الشخصية الاساسية للافراد.
ز ـ التعذيب "الاسرائيلي": لقد استلهمت "اسرائيل" كافة التجارب الانجلوساكسونية للتأثير على الوعي ولغسيل الدماغ وهي قد خرجت منها بباقة منتقاة من وسائل التفكيك للشخصية اضافت اليها تجارب المانية وخصوصا تجارب غروس ماير، وصولا الى تقنية الرجرجة. وفي ما يلي نموذج لهذا التعذيب:
1 ـ الغرفة الصامتة: تخيل الرتابة البيضاء لزنزانة مزودة بنور مصباح من النيون، بياضه يبهر وهو مضاء ليل نهار. وهذا العزل البصري يتلازم اضافة الى ذلك مع عزل سمعي: تخيل هذا السكون المصطنع حيث ابسط الاصوات، كحفيف الثياب مثلا، تصم الاذان. وايقاع الاصوات اليومية التي يحتاجها كل انسان للارتكاز الى ذاته، هذا الايقاع يلغي. والمعذب لا شكل معروفا له ولا وجه له. تلغى كل المثيرات الخارجية الحواسية (ضجيج تعاكس الاضواء والالوان) وهذه المثيرات لا يستغنى عنها في عملية حفظ وصيانة الوظائف الاكثر اهمية عند الكائن الانساني.
2 ـ تدمير الدماغ: ان هذا الشكل من اشكال التعذيب يجعل المرء في حالة من الخضوع لم يعرف حتى العهد النازي. ومن هنا ندرك بان غسيل الدماغ ما هو الا مرحلة من مراحل التدمير الكامل للشخصية، وهو السبب الحقيقي لابتكار الغرفة الصامتة. وهذا امر يسهل برهنته (اثباته) اذ ان العزل السمعي والبصري (الكامل) أي عزل محيطي كامل، لا يمكن الا ان يؤدي الى تشويه الشخصية اذ ان العلاقة التواصلية مع البيئة الاجتماعية المحيطة تشكل احد العناصر الاساسية التركيبية للشخصية. وفي هذا الصدد يقول الطبيب النفسي الهولندي "سجيف نونز" بان السمع يرتبط ارتباطا وثيقا بحس الجاذبية وهذا الاخير هو حس في غاية الاهمية بالنسبة الى حس التوجيه. وبان حس التوجيه فيما يتعلق بمركز الجاذبية كما ان اعاقة حس التوجيه هذا فيما يتعلق بمركز الجاذبية تشكل احد العوارض الاساسية للوصول الى احداث الصرع وتأثير الصدمات الكهربائية. والبنية الانسانية تعجز عن مقاومة الحرمان الحواسي المصطنع الذي يحدثه البشر. متعددة هي اذ ان تأثيرات ذلك التعذيب وكل وصف لها لا يمكن ان يكون تقريبيا. ومع ذلك ها نحن نظهر بعضا من تأثيراتها الاساسية: فقدان خاصية التركيز والتفكير بشكل متماسك والعجز عن التوجيه زمانيا ومكانيا وهلوسات و(هذيانات) احساس بالازدواجية وبفقدان التوازنات الحركية والارتجاف وتقلصات كما يحدث اثناء الصدمة الكهربائية.
3 ـ شهادة سجينة: تصف سجينة تعرضت لهذا التعذيب في سجن الماني احساسها على النحو التالي:
"يشعر المرء بان رأسه يتفجر، وبان قفص جمجمته سوف ينكسر وينفجر وبان النخاع الشوكي يدخل عنوة الى الدماغ. وينتابنا احساس بان الدماغ يتقلص باستمرار تحت وطأة توتر يجهل مصدره وكأنه مسيّر اليكترونيا. ثم ان الانسان يحس بأنه يدير وتتقارب الافكار في رأسه ولا يستطيع التخلص من هذا الاحساس الا اذا تحرك. والمرء لا يدري لماذا يرتجف ولماذا تتجلد اطرافه بردا ولكي يتكلم بصوت طبيعي عليه ان يبذل جهودا مضنية وعليه تقريبا ان يصرخ ويشعر المرء كما لو انه اصبح اخرس ولا يمكنه ان يحدد معنى الكلمات...".
4 ـ تقنية الرجرجة: وهي من احدث اساءات استخدام المعارف المتوافرة عن دراسات النوم وعلاقتها بالتوازن النفسي للانسان. فاساليب غسيل الدماغ المعتمدة على الحرمان الحسي باتت معروفة ومدانة. وهي عمليا صالحة للاستخدام خلال الفترة الاولى من الاعتقال. اما تقنية الرجرجة فهي تمتاز بعدم وجود دراسات كافية لتأثيراتها اضافة الى انخفاض نسبة وفيات المتعرضين لها. وهي مميزات جلبت "الاسرائيليين" اليها لانها تجنبهم الانتقادات الموجهة الى وسائل التعذيب التقليدية، وتعطيهم التأثير المطلوب على اسراهم. وتتلخص تقنية الرجرجة بوضع جهاز يحدث رجرجة بسيطة تحت الرأس بحيث لا يمنع الشخص من الاغفاء، لكن هذه الرجرجة تؤثر على مراحل النوم بحيث يصبح تعاقبها معوقا الامر الذي يؤدي الى زيادة فترات النوم السطحي وانخفاض في فترات النوم التي تحدث فيها الاحلام. فتكون النتيجة اضطرابات ذكروية. خصوصا لجهة انتقال الذكريات من حيز الراهنية الى حيز التخزين. كما تؤثر هذا الرجرجة الى الانماط اليومية ( Rhytmes Circadiennes) للشخص بحيث تضطرب ساعته البيولوجية في ما يتعلق بوقت النوم وبعد ساعاته ومرات التبول وسائر العمليات المرتبطة بالجهاز العصبي اللاارادي الامر الذي يؤثر على القوى الادراكية للشخص فيصيبها باعطال مزمنة. كما تؤدي هذه التقنية، ولو في حالات نادرة، الى تشجيع تطور العديد من الاعطال الدماغية لدرجة التسبب بوفاة بعض المعتقلين.
ومع كل السرية والتكتم المحيطين باساليب معاملة "اسرائيل" للاسرى العرب فان تقارير الصليب الاحمر الدولي تشير بان التقنيات التعذيبية المستخدمة ضد السجناء العرب في "اسرائيل" تفوق قدرات الاحتمال البشري. ولعله من المفيد للموضوعية ان نذكر هنا بان هذا التعذيب يرتكز الى منطلقات تمييزية تتعلق بانسانية الاسير نفسه. فهو يتعرض للمعاناة بسبب انتمائه العربي والشك بافعال تنسجم مع هذا الانتماء وليس بسبب مخالفات قانونية او سياسية محددة. لذلك فان كل عربي مرشح لان يكون ارهابيا او ذا صلة بالارهابيين تجعل تعريضه للرجرجة مبررا. دون الالتفات الى تعريف قانوني وانساني مقبول وشامل للارهاب، اذ يخضع للرجرجة كل من تنطبق عليه صفة الارهابي بحسب قاموس نتانياهو في كتابه عن مكان تحت الشمس لا يجده الا بارهاب الآخرين وبقمع ردرد فعلهم على ارهابه.