تبدو الأوضاع في الدولة العبرية وكأنها مركب يتخبط من دون وجهة محددة. فتقرير لوكر واستطلاعات الرأي تشير إلى ضجر الجمهور الإسرائيلي من استمرار هيمنة المؤسسة العسكرية على كعكعة الميزانية العامة على حساب الخدمات الاجتماعية. والخلافات بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما حول الاتفاق النووي الإيراني تظهر تصدعاً في أحد أهم أعمدة الأمن القومي الإسرائيلي وهو الدعم الأميركي. ومع ذلك يجد وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، الجرأة لتهديد إيران بضربة عسكرية إسرائيلية وبتقصير عمر علماء الذرة الإيرانيين.
وفي المقلب الآخر تجد حكومة نتنياهو التي تعيش على فارق صوت واحد في الكنيست تواجه ظروفاً متزايدة التعقيد في الحلبتين الداخلية والإقليمية. وما إعلان حالة التأهّب القصوى في صفوف القوات الإسرائيلية الضفة الغربية إثر إحراق عائلة الدوابشة في قرية دوما إلا تحسباً لاحتمالات واقعية بانفجار الصدام الكبير. وتقر أوساط عسكرية إسرائيلية بأن السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس هي مَن تحول دون انفجار الوضع. ولكن العلاقات بين حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينية في أسوأ الحالات نظراً لإصرار الأولى على إبقاء طريق التسوية المعلوم مسدوداً.
وبديهي أن الإسرائيلي الذي يجد أن القوى الفلسطينية المركزية تتعامل مع التطورات وفق حسابات ربح وخسارة يعرف أن الجمهور الفلسطيني ليس بالضبط هكذا، وأنه مراراً أفلح في تحطيم قواعد اللعبة. وما العمليات «الفردية» من دهس وطعن تجري في طرق الضفة الغربية والقدس المحتلة إلا محصلة لما يعتمل في نفوس الجمهور الفلسطيني الاعتيادي. وهذا يخيف الإسرائيلي الذي يشعر حينها بأن المجهول أكثر من المعلوم في أي صدام على طريقة الانتفاضة. وطبيعي أن الصواريخ التي انطلقت من غزة في الأيام الأخيرة والغارات الإسرائيلية على القطاع تثبت أن ملف الحرب في هذا القاطع لا يزال مفتوحاً وهو مؤهل للتصعيد في كل لحظة.
وليس هذا فقط ما يشغل بال القيادات الإسرائيلية التي تجد نفسها مراراً أمام عواقب أفعالها. فنجاح اليمين في الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية وجهوده لتعزيز الاستيطان في القدس والضفة عموماً يجعل من المستحيل إقامة هذه الدولة ما يفرض معطيات جديدة. ويعتقد كثيرون في إسرائيل أن البديل للدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل هو واحد من اثنين إما دولة ثنائية القومية أو دولة تمييز عنصري. ويذهب كثيرون إلى أكثر من ذلك، مثل رئيس الشاباك الأسبق يوفال ديسكين، إلى اعتبار أن دولة إسرائيل صارت رهينة بأيدي دولة يهودا. ويتحدث ديسكين عن منظومات قيمية مختلفة تجعل من شبه المستحيل إنشاء منظومة موحدة.
ويكتب أمنون أبراموفيتش في «يديعوت» أن فكرة إنشاء دولة يهودا ليست جديدة وأنها مطروحة في أوساط دينية وقومية منذ أواسط الثمانينيات وهي في نظرهم بديل عن إزالة مستوطنات. وفي نظر الكثيرين توجد أعداد متزايدة من الإسرائيليين الذين يؤمنون أن الأرض أهم من الدولة. وهؤلاء يعتقدون أن بالوسع حل النزاع على أساس حل الدولتين: دولة إسرائيل ودولة يهودا.
وفي كل حال من الجلي أن الأصوات تتكاثر تحذر من الوجهة التي تتخذها الأمور. فالإرهاب اليهودي لم تعد ممارسته قصراً على العرب بل لا يتورع عن التضحية بيهود يعتبرهم خارجين عن الدين والإيمان. ومرة أخرى عادت إلى الأذهان الظروف التي رافقت اغتيال رئيس الحكومة الأسبق اسحق رابين برصاص يهودي. وفي حينه حمل يهود صورته مرتدياً البزة النازية والكوفية الفلسطينية. والشيء نفسه يتكرر حالياً مع الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين الذي حمل على الإرهاب اليهودي وطالب بتغليب مفهوم الدولة وقوانينها.
كما أن زعيم المعسكر الصهيوني، اسحق هرتسوغ كان واضحاً في مخالفته موقف بنيامين نتنياهو بشأن الخلاف مع أوباما حول الاتفاق النووي الإيراني. فقد أدرك أن أخطر ما في هذا الخلاف ليس التحذير من الخطر الإيراني أو أن الاتفاق النووي سيئ لإسرائيل ولكن التدخل في الشأن الداخلي الأميركي. وربما لهذا السبب استمع إلى نصائح عدد من قادة اليهود في أميركا ممن يستشعرون هذا الخطر ولا يترددون في القول إنه ليس من حق رئيس الحكومة في إسرائيل تحديد موقف يهود أميركا من أي قضية.
وليس صدفة أن كبير المعلقين في «هآرتس»، يوئيل ماركوس كتب أن «الوضع سيئ للغاية. ليس فقط لان نتنياهو يضع الناخب اليهودي في أميركا في معضلة، بل لأنه ايضاً يخرج المارد اللاسامي من القمقم. يدور الحديث هنا عن خصوصية مميزة: كل شيء يلمسه نتنياهو، يتشوّه. هو الذي حرر الشياطين التي تسمى «كراهية الغير»: العرب مقابل اليهود، اليهود مقابل العرب، الوسط ضد اليسار، الشرقيون ضد الاشكناز، اسرائيل ضد اميركا». وأشار ماركوس إلى أن إسرائيل طوال تاريخها كانت دولة ديموقراطية، «ولكن كلما واصل الجنون السيطرة، لم يعد الناس يشترون هذه الشعارات. دولة ليس فيها مساواة حقوق، دولة لا تعترف بحق الغير في ان يعيش كمواطن، تحتفظ بأرض محتلة لنحو خمسين سنة – لا يمكنها أن تمتنع عن تشويهات عميقة. اليأس آخذ في الانتصار».
واضح أن المشكلة أكبر من الاتفاق النووي الإيراني ومن طريقة تعامل نتنياهو مع الإدارة الأميركية. المشكلة كبيرة في إسرائيل. ما يجعلها تبدو صغيرة وغير واضحة أن العرب في الغالب استقالوا من دورهم الإقليمي والدولي سواء بسبب انشغالهم بحروبهم الداخلية أو بسبب تخوّفهم من الحرب مع إسرائيل.