من بين كل المشاكل الكبرى التي تعيشها إسرائيل حالياً، ابتداءً من الائتلاف الحكومي الهش إلى الاتفاق النووي مع إيران ومخاطر الصراع مع الإدارة الأميركية، مروراً بالبركان الهائج في المنطقة العربية، تحتل مسألة ميزانية الدفاع مكانة الصدارة حالياً في الإعلام الإسرائيلي.
وبديهي أن الاهتمام يتركز بشكل أساسي على الحصة التي تنالها المؤسسة الأمنية من كعكة الميزانية العامة في ظل تراجع الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية لأسباب اقتصادية.
ويحاول الجيش الإسرائيلي، الذي تكاد ميزانيته العامة تبلغ 20 مليار دولار ـ سواء ما يعلن عنه ضمن الميزانية أو ما يتلقاه من مساعدات أميركية مالية أو عينية أو حتى من عائدات الجيش من مبيعات الأسلحة ـ إظهار حرصه على كل قرش يصرف من المال العام، لكن كثرة اللجان التي تشكلها الحكومة للنظر في طرق صرف الجيش للأموال الطائلة التي تحت تصرفه، تظهر أن الثقة تكاد تكون مهتزة بينه وبين أجهزة الرقابة أو الصرف.
وهذا ما يستدعي بين الحين والآخر عرض أسئلة تتعلق بالشفافية والنجاعة بل وتقديم اقتراحات من خارج الجيش لتحديد أوجه الصرف. والأمر في الغالب لا يتعلق فقط بالتقديمات لمنتسبي الجيش، وإنما أيضا بصفقات الأسلحة، وكان هذا في «لجنة برودت» بعد «حرب لبنان الثانية» و«لجنة لوكر» بعد حرب غزة الأخيرة.
ومعروف أن سجالاً دار طوال العقد الفائت حول مصاريف بمليارات الدولارات أنفقتها الدولة العبرية على تطوير خيارات عسكرية في مواجهة إيران. ولكن هذه الخيارات، سواء ما تعلق منها بشراء طائرات وذخائر وغواصات، صارت في نظر البعض مجرّد تبذير لأنها لم توفر لإسرائيل القدرة على التأثير في الاتفاق النووي من ناحية، ولم توفّر لإسرائيل قدرة فعلية لتوجيه ضربة عسكرية ناجعة ضد إيران.
وفي كل حال، فإن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الحالي، الجنرال غادي آيزنكوت، والذي كان رئيسا لغرفة العمليات في «حرب لبنان الثانية» ونائباً لرئيس الأركان في حرب غزة الأخيرة، يدرك أن التركيز على سلاح الجو وعلى تطوير أسلحة استراتيجية أفقد جيشه القدرة على حسم معارك على الأرض.
وكان واضحا أن الجيش الإسرائيلي فقد الكثير من هيبته في مواجهة المقاومة اللبنانية والفلسطينية في جنوب لبنان وفي غزة في الاشتباكات البرية ما دفع قادته إلى العودة للتركيز على القوات البرية تدريباً وتسليحاً.
وفي مواجهة تقرير وتوصيات «لجنة لوكر» يعرض الجيش الإسرائيلي حاليا «خطة جدعون» المستندة إلى مبدأ تدريبات اللياقة البدنية والرامية إلى جعل الجيش الإسرائيلي أقل وزنا وأكثر عضلات.
ولكن طوال الوقت كان هناك من يريد نتائج، وهي كانت عمليا تقليص حصة الجيش الاسرائيلي من الميزانية العامة.
ومعروف أن ميزانية الدفاع الاسرائيلية، من دون حساب ميزانية «الأدوات الخاصة» - أي أجهزة الاستخبارات كـ «الشاباك» و «الموساد» ولجنة الطاقة النووية - بلغت في العام 2014 حوالي 67 مليار شيكل (حوالي 18 مليار دولار) أو ما يزيد عن خمس الميزانية العامة.
وتتحدث الصحافة الإسرائيلية عن أن حوالي نصف ميزانية الدفاع، أي حوالي 30 مليار شيكل، تذهب لرواتب العسكريين ولمساعدات عائلات القتلى والجرحى ونفقات التقاعد. والنصف الآخر يغطي النفقات الجارية للجيش من غذاء ودواء وكساء وتدريبات فيما يبقى قسم ضئيل منه يستخدم في مشاريع تطوير وتعزيز القدرات. وكل هذه الحسابات لا تأخذ بالاعتبار المساعدات السنوية الأميركية الثابتة بقيمة 3.1 مليارات دولار.
وبين هذا وذاك، وكما بينت الحروب الأخيرة، فإن إسرائيل كانت تحتاج إلى مخازن طوارئ كبيرة. إذ اضطرت سواء في «حرب لبنان الثانية» التي استمرت أكثر من شهر أو حرب غزة التي دامت 51 يوما إلى طلب ذخائر بشكل عاجل من الولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال فإن إسرائيل أطلقت في العقد الأخير في حروبها أكثر من 400 ألف قذيفة مدفعية. وهذا يشير إلى كثافة استهلاك المخزون في جانب واحد من دون النظر إلى الأسلحة الدقيقة الأعلى تكلفة والتي يزداد استخدامها على نطاق واسع. وتزداد التكلفة أيضا جراء الميل المتزايد في إسرائيل الى الدفاع ضد الصواريخ سواء عبر استخدام منظومات «القبة الحديدية»، أو عبر استخدام منظومات حماية المدرعات والآليات وكلها ذات تكاليف عالية.
ومن المهم الإشارة هنا إلى تغييرات بنيوية جرت على الجيش الإسرائيلي بسبب التطورات الإقليمية والتقنية. وتكشف المعلومات عن أن الجيش الإسرائيلي تخلى منذ العام 1985 عن حوالي 75 في المئة من عديد دباباته، كما تخلى عن حوالي 50 في المئة من عديد طائراته. وهذا الكلام يعني أنه تخلص من دبابات قديمة كثيرة وركز على دبابات حديثة أقل وكذا الحال مع الطائرات حيث ستصل في مطلع العام المقبل أولى طائرات إف 35. وبالمقابل ازدادت نسبة الطائرات من دون طيار في سلاح الجو الإسرائيلي بـ 400 في المئة، فيما يقال إن الجيش الإسرائيلي يحول نفسه إلى آلة حرب تكنولوجية مستندة إلى شبكة متطورة.
لكن وكما يتبين من تركيبة الجيش فإن أهم التوسعات التي جرت عليه في العقد الأخير تتعلق أساسا بسلاح الاستخبارات الذي يعتمد على منظومة كبيرة من أجهزة الرصد الثابتة والمتحركة في الجو والبر والبحر. وكذلك هناك التوسع في منظومة السايبر الجديدة التي تقرر تشكيل قيادة إقليمية لها على اعتبار أنها بالغة الحيوية والضرورة في الحروب المقبلة.
ويرى كثيرون أن العبء المالي على الدولة العبرية يزداد حتى مع تنامي التقنيات وتقليص أعداد العاملين ورواتبهم. فالجيش مضطر لتوجيه أموال طائلة نحو منظومة الطائرات من دون طيار ومنظومات الدفاع ضد الصواريخ وأجهزة الرصد بما فيها الفضائية وكل ذلك فضلا عن الأسلحة التقليدية من طائرات ودبابات ومدرعات وصواريخ وبنادق.
ومن الجائز أن مشكلة إسرائيل تكبر تجاه أعباء الميزانية في ظل إيمان قادتها الحاليين باستحالة تحقيق السلام مع الدول العربية. لذلك لا يبقى أمام الجيش الإسرائيلي سوى العمل على أساس أن الحرب المقبلة وشيكة ويجب الاستعداد لها وأنها قد تنشب على أكثر من جبهة دفعة واحدة.