كتب محرر الشؤون العبرية
يشهد كيان العدو الصهيوني حركة احتجاج جماهيري بمستويات لم يعرفها منذ
عشرات السنين، على خلفية أزمات اجتماعية، وتحديداً بسبب ارتفاع أسعار الشقق
وأجور السكن، عبرت عن نفسها بمسيرات شعبية شملت جميع أنحاء الكيان الغاصب
تقريباً، وبشكل خاص مدن القدس وبئر السبع وحيفا وتل أبيب وكريات شمونة
والعفولة.
ما هي الأبعاد التي ينطوي عليها هذا الحراك الجماهيري؟
يشكل الاحتجاج الجماهيري الحالي سابقة لم يبادر إليها الجمهور الإسرائيلي
في الأعوام الأخيرة، على خلفية أزمات اجتماعية واقتصادية، لعدة أسباب منها
احتلال القضايا الأمنية والسياسية صدارة اهتمامات الجمهور بفعل الظروف
المحيطة بـ"إسرائيل".. هذا وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تفاخر، خلال
الأشهر الماضية، بالقول إن الكيان العبري مختلف عن غيره من الدول في الشرق
الأوسط، وإنه "الديموقراطية" الوحيدة التي "تحافظ على حقوق الإنسان"، وإن
هناك "دولة واحدة لا احتجاجات فيها وهي إسرائيل"، لكن الاحتجاجات التي ملأت
الشوارع على مدار الأسابيع الماضية بسبب غلاء المعيشة والسكن، نسفت
ادّعاءاته وقرعت أبواب المؤسسة السياسية، في أصعب تحدٍّ تواجهه حكومة
نتنياهو، منذ تشكلها في العام 2009، من بوابة القضايا الاجتماعية
والاقتصادية.
وما يُميز حركة هذا الاحتجاج أنها تأتي من الطبقة الوسطى التي كانت حتى وقت
قريب تشكل القاعدة الأساسية لأحزاب الوسط وخصوصاً الليكود. وإذا كانوا في
الماضي يتحدثون عن «دولة تل أبيب» كرمز للغنى والترف وقلة الجهد، فقد نشأ
في قلب هذه الدولة النقيض التام لترف الأغنياء الجدد وستسجل كمدينة انطلق
منها الاحتجاج. ورغم محاولة بعض اليمينيين الإيحاء بأن الاحتجاجات يسارية
الطابع في محاولة للقول إن الجمهور يؤيد اليمين ليس فقط في السياسة وإنما
أيضاً في الاقتصاد، إلا أن خلفيات التحرك وشعاراته بل وردة فعل نتنياهو
نفسه تعكس حالة الانتشار الأفقي للمتظاهرين، حتى أن الوزير الليكودي
"ميخائيل ايتان" أكد أنه التقى كثيراً من الليكوديين المشاركين في
الاحتجاجات. وقال إن «ناخبي الليكود يأتون ويقولون لي: إننا نعاني. صحيح أن
اليسار يسيطر في التظاهرات، لكن الأغلبية الحاسمة المشاركة في التظاهرات
ليست حزبية والمشاكل ليست لليساريين فقط. إنها مشاكل لنا جميعاً".
أسقطت الاحتجاجات الجماهيرية مقولة خبراء اقتصاديين إن "إسرائيل" كانت حتى
وقت قريب معجزة اقتصادية في ظل الأزمة العالمية: نسب نمو مرتفعة, خروج مبكر
من الأزمة، معدلات بطالة متدنية، إنتاجية وصادرات تتزايد. وتبددت عبارات
التفاخر التي دأب رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير ماليته "يوفال شطاينتس"
على إطلاقها في امتداح نسب النمو في الاقتصاد الإسرائيلي مقارنة بالأزمات
في أوروبا. كشفت الاحتجاجات عن حقيقة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي
كان يغطيها الوضع السياسي والأمني ويتجاهلها قادة "إسرائيل"، وأشعلت صراعاً
ومساراً قد لا تبقي "إسرائيل" عامة، وتل أبيب خاصة، في سياق مختلف. رغم
أولوية العامل الأمني والسياسي في كل العمليات الانتخابية التي شهدتها
"إسرائيل"، إلا أن ذلك لا يلغي العامل الاقتصادي وأثره على تفاوت بين
انتخابات وأخرى وبين ظرف وآخر. وحول ذلك أوضح الوزير الليكودي جدعون ساعر
المعادلة التالية "في العشرين عاماً الأخيرة، في كل مرة دارت المعركة
الانتخابية حول الموضوع الاقتصادي ـ الاجتماعي، كان الليكود يخسر. وكلما
كان الموضوع سياسياً ـ أمنياً كان الليكود يفوز"، مع ضرورة التأكيد على
نسبية هذا المفهوم وأن جميع العوامل المؤثرة في قرار الناخب الإسرائيلي
(سياسية ـ أمنية، أيديولوجية، اقتصادية، شخصية..) عادة ما تكون حاضرة في كل
عملية انتخابية لكن ما يميزها عن بعضها بعضاً مستوى حضور كل عامل ...
ومن أبرز المحطات الانتخابية التي كان فيها للعامل الاقتصادي أثره المميز
(إلى جانب العامل السياسي الأمني) انتخابات العام 2006، التي أسفرت عن فوز
كتلة المتقاعدين التي ينتمي اعضاؤها إلى معسكرات متعددة بـ 7 مقاعد، ولكن
ما جمعهم شعار المطالبة بحقوق المتقاعدين.. أيضاً فقد كان للبعد الاقتصادي
في شخصية عمير بيرتس الدور الأساسي في الفوز برئاسة حزب العمل.. أما الآن
وقد حصل هذا الحراك الاحتجاجي فمن الواضح أنه فرض على نتنياهو أولويات
داخلية، إلى جانب الأولويات السياسية والأمنية التي يحتل فيها البرنامج
النووي الإيراني وحزب الله وحماس الصدارة. هذا إلى جانب حقيقة أن التوظيف
السياسي والانتخابي في "إسرائيل" لا يقتصر على قضايا دون أخرى، بما فيها
القضايا الإستراتيجية الكبرى، كيف والقضية تتعلق بأزمة سكن تواجهها حكومة
نتنياهو، في بداية النصف الثاني من ولايتها التي بدأت في آذار 2009, خاصة
وأن هذه الأزمة التي تطاول شريحة واسعة من الجمهور تملك قابلية الاستثمار
في التنافس الداخلي بين المعسكرات وداخل المعسكر الواحد.
إلى ذلك، يبدو أن المخاوف من العلاجات التي قد تبادر إليها حكومة نتنياهو
تطال المؤسسة الأمنية بكل عناصرها، بهدف تقليص النفقات، من هنا حذر رئيس
أركان الجيش "بيني غانتس" من أن أي تقليل في الموازنة الدفاعية للجيش
الإسرائيلي لصالح الخدمات الاجتماعية في "إسرائيل" سيعرض أمن ودفاعات
"إسرائيل" للخطر في أي مواجهة مقبلة, خاصة "وأننا نمر في مرحلة عدم استقرار
في المنطقة، وأصبحت التهديدات تشكل علينا خطراً أكبر في كل يوم يمر، ونحن
قد نضطر إلى التخلي عن بعض الأنظمة الجديدة بسبب هذا القرار ولكننا لن
نتخلى عن استعداداتنا للقتال". لكنه عاد وأعرب عن التزامه بأي قرار تتخذه
الحكومة فيما يتعلق بتخفيض موازنة الجيش.