يوجد خيط رفيع جدا بين ضبط النفس والتجابن، ويوجد خيط رفيع جدا بين الشجاعة والإقدام والتهور. وكلا الخطين لا يمكن ادراكهما بوسائل حسابية رياضية، لانهما يضبطان حدود حالات نفسية وعقلية ترتبط بالوعي، وغير قابلة للقياس، ما يلزم دراسة العوامل الدافعة والمساندة للافعال، لتحديد منطلقاتها، وهذه هي حال العدو الصهيوني وافعاله وتهديداته في المرحلة الحالية.
ولا يراد من هذه المقدمة فلسفة الاشياء، بل الاشارة الى ان فهم المواقف والافعال الاسرائيلية في المرحلة الحالية، لا يستقيم فقط، من خلال دراسة الموقف او الفعل نفسه، بل يجب ردها الى سياقها وظروفها واستهدافاتها، والا لما امكن للمتابع فهم التصريحات والمواقف الاسرائيلية، بل والافعال ايضا، فبين ان يقول رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو ان "اسرائيل ستستخدم القوة من اجل ردع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة ووقف اطلاق الصواريخ"، وبين قوله ان "اسرائيل لا تريد تصعيد الاوضاع الامنية في قطاع غزة"، فرق شاسع، مع العلم ان كلا التصريحين صدرا في يوم واحد.
حبلت المرحلة التي سبقت الاحداث في مصر والثورة فيها، بمواقف وتصريحات اسرائيلية عدائية، توعدت الفلسطينيين بحرب لم يروا مثيلا لها، إن هم اقدموا على الاضرار بـ"اسرائيل" والتصعيد الامني. كانت المعادلة مبنية على الآتي: لـ"اسرائيل" الحق في فعل ما تريد، لكن يمنع على الفلسطينيين القيام برد.. والا. هذه هي المعادلة من ناحية تل ابيب، ويجب على الفلسطينيين التقيد بها، وإن خالفوها فسوف يتلقون العقاب الموعود.
استطاع فلسطينيو قطاع غزة ان يحولوا التهديد الى فرصة، ونظروا الى المسائل نظرة استراتيجية بعيدة المدى، فعلموا على ايجاد ثغرات في جدر الحصار |
مع ذلك، استطاع فلسطينيو قطاع غزة ان يحولوا التهديد الى فرصة، ونظروا الى المسائل نظرة استراتيجية بعيدة المدى، فعلموا على ايجاد ثغرات في جدر الحصار، ورمموا قدراتهم العسكرية، التي قيل فيها اسرائيليا قبل ايام، انها وصلت الى حد امتلاك حركة حماس صواريخ مضادة للطائرات، من شأنها ان تسقط الطائرات الاسرائيلية التي تحلق فوق القطاع. والاقرار الاسرائيلي موجود ومعلن عن تعاظم القدرة العسكرية لدى المقاومين في غزة:
ـ وسائل قتالية دفاعية برية ضد المدرعات.
ـ وسائل قتالية دفاعية ضد السفن الحربية.
ـ صواريخ تصل الى ما بعد تل ابيب، مع خاصية الدقة والقدرة التدميرية.
كان انجاز الفلسطينيين خلال فترة الحصار موصوفا، وذخرا للايام المقبلة والمستقبل الآتي، الذي توعدت "اسرائيل" بانه سيكون مدمرا، إن قررت شن هجوم جديد على القطاع.
ويمكن للمتابع ان يتلمس الانجاز الفلسطيني، الذي تحقق خلال فترة الحصار، بالآتي: كان الخيار العسكري اسرائيليا، خيارا متاحا في اي لحظة، ولا يلزمه سوى القرار السياسي في تل ابيب، مع سهولة ايجاد مبررات له. اما الان، فان الخيار العسكري، ايضا اسرائيليا، بات مستعصيا ودونه عقبات واثمان يتوجب وضعها على طاولة القرار العسكري قبل اتخاذه، فما بات في حوزة المقاومة في قطاع غزة من قدرات عسكرية غير مسبوقة، قياسا بالقدرات التي كانت موجود في المراحل الماضية، كفيل بلجم الاسرائيلي ودفعه الى التفكّر مليا قبل شنه اعتداءا جديد على القطاع.
الانجاز الفلسطيني من هذه الناحية، مركب. اي بات على صاحب القرار في "اسرائيل" ان يحسب حسابات لم يكن مضطرا للقيام بها في السابق. اهم الاسئلة التي يجري طرحها على طاولة القرار الاسرائيلي، هي الآتية: هل يؤدي الفعل العسكري الاسرائيلي، صغر ام كبر، الى مواجهة شاملة مع الفلسطينيين؟ هل يؤدي الرد على الرد الفلسطيني الى تدحرج الردود باتجاه المواجهة الشاملة؟ بل هل يؤدي التصعيد الكلامي، تدحرجا، الى مواجهة شاملة؟ انها ثلاث اسئلة تحكم الفعل الاسرائيلي، وتمكّن من رؤية واستخلاص فعله وردة فعله، في سياق المواجهة الحالية.
القدرات والوسائل القتالية التي باتت في حوزة الفلسطينيين تعني ان ثمن المواجهة الشاملة سيكون كبيرا جدا وغير محمول. هذه المعادلة لا ينفيها قادة الاحتلال، بل ويشددون عليها، وحملت الفترة الحالية والماضية كثيرا من التصريحات والمواقف الدالة عليها.
تاثيرات الثورات العربية لا تقتصر على ساحاتها وحسب، بل وتمتد الى خارجها، وبشكل اساسي الى البيئة الاستراتيجية للكيان الصهيوني |
معنى ذلك ان "اسرائيل" تدرك جيدا مخاطر المواجهة الشاملة مع اعدائها، بل مع جهة واحدة في القوس العدائي المركب والمتآخي والمتصل ببعضه بعضا، وتحسب تل ابيب لذلك حسابات تؤدي الى لجمها وعدم التمادي في اعتداءاتها..
مع ذلك، يوجد امام "اسرائيل" محظور آخر، يزيد من تكبيل اليد ولجم المبادرات الهجومية. فاضافة الى قدرة ومنعة جبهة المقاومة، سواء في قطاع غزة او لبنان او سوريا، برز امام تل ابيب مانع من شأنه ان يكبح افعالها العدائية: الاوضاع في الساحات العربية، وإمكان ترديها الى مزيد من التداعيات السلبية على الكيان.
المؤكد ان تاثيرات الثورات العربية لا تقتصر على ساحاتها وحسب، بل وتمتد الى خارجها، وبشكل اساسي الى البيئة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، باتجاه تغيير امكاناته ودائرة مناوراته السياسية والعسكرية والامنية، وهذا ما تدركة تل ابيب جيدا. في نفس الوقت، تخشى "اسرائيل" في مرحلة سقوط الانظمة الموالية للغرب، اي المحور التي ترى نفسها جزءا منه بما يعرف بمحور الاعتدال، ان تتسبب هي نفسها بالمساهمة في سقوطه او بالمزيد من سقوط رموزه. فحسب توصيف الاستخبارات الاسرائيلية، "يجب على اسرائيل ان تتنبه وتراقب جيدا ما يحدث من حولها، وان لا تظهر بمظهر المتدخل في هذه الساحات، وتحديدا في الاردن، اذ ان تغير الاوضاع في هذا البلد، ونشوء نظام معاد لـ"اسرائيل" في عمان، قد يغير الاوضاع الامنية في تل ابيب، بشكل جذري".
من هنا يمكن فهم محاولة "اسرائيل" عدم التسبب بسقوط مدنيين في قطاع غزة، على نقيض من الجولات التصعيدية السابقة، حيث كان استهداف المدنيين هو المطلب الاول والاساسي سعيا لتعزيز الردع ضد المقاومين. ومن هنا يمكن فهم قصف مواقع للمقاومة، كان قد اخلاها المقاومون في وقت سابق، مع علم الكيان بفراغه من المقاومين. ومن هنا ايضا، يمكن فهم الصراخ الاسرائيلي الجدي بلا فعل حقيقي وجدي، واقتصار الهجمات، بشكل عام، على المواجهة المباشرة او استهداف مقاومين يخروجون الى العمل الجهادي المباشر، وما يرتبط به.
مع ذلك، يجب الاشارة الى الآتي:
اولا: لا يمكن لاسرائيل ان تقر بانها ملجومة ومردوعة، مهما كانت افعالها المعبرة عن ارتداعها.. رغم ان صراخها التهديدي سيكون مرتفعا جدا في هذه الحالة، وقد يكون تعبيرا عن الردع اكثر من كونها طلبا لتخويف او ردع الطرف الاخر. والمصطلح المعروف صائب في هذه الحالة: من يريد العمل، لا يتكلم.
ثانيا: مع ان "اسرائيل" مردوعة، ولا تريد الوصول الى مواجهة شاملة مع قطاع غزة، او ان تقوم بما من شأنه التسبب لاحقا وتدحرجا بمواجهة شاملة، الا انها معنية ايضا بعدم الوقوف مكتوفة الايدي، منعا لاظهار ارتداعها امام اعدائها. ومن هنا يمكن فهم الاعتداءات الاسرائيلية الاخيرة، رغم ان بعضها استعراضي شكلي، وفارغ من المضمون الفعلي، كقصف مواقع مخلاة تابعة للمقاومة في القطاع.
ثالثا: الجمع ما بين المطلب الاول والثاني، يُمكّن من اظهار توجه تل ابيب وافعالها، سواء بما يرتبط بافعال الامس او اليوم او الغد.. فهي تخشى من المواجهة وما قد يتسبب بها، وبالتالي تمتنع عما يؤدي اليها، وفي نفس الوقت تريد ان لا تظهر ارتداعها.. وبين هذا وذاك مروحة من الافعال يمكن ان تلجأ اليها.. الا ان مشكلة تل ابيب الفعلية، ان اعداء اليوم غير اعداء الامس، فهم يدركون جيدا موقفها ومنطلقات قراراتها.