حسان ابراهيم
لا يخفي العدو الصهيوني اهمية التسوية مع سوريا، باعتبارها هدفا
مركزيا اساسيا ومدماكا لا غنى عنه، في سبيل تعزيز مكانته وبيئته
الاستراتيجية، التي مسها ضرر كبير جدا في السنوات الاخيرة. صدر عن الكيان
الاسرائيلي مواقف ودراسات وابحاث، تعبر عن هذا المنحى، ورغم ذلك ما زال
الاختلاف بيِّنا، كان وما يزال تجاه الثمن الواجب على تل ابيب دفعه الى
السوريين، وإمكان قبول سوريا به، بينما يتجه اخرون الى التركيز على ما يجب
القيام به، من قبل الطرف الاخر، كثمن للتسوية نفسها.
آخر ما صدر عن الكيان الغاصب تجاه سوريا، جاء على لسان رئيس الحكومة
بنيامين نتنياهو، الذي شدد امام لجنة الخارجية والامن، بان "اسرائيل معنية
باستئناف المفاوضات مع سوريا على الفور"، لكنه اوضح في نفس الوقت انه "لا
يرى خطوة سورية ملموسة في هذا الاتجاه". اما رئيس وحدة الابحاث في
الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، "يوسي بايدتس"، فاعلن امام اللجنة
نفسها، انه "سيكون لتسوية سلمية محتملة بين اسرائيل وسوريا، تاثير
استراتيجي ايجابي على اسرائيل وعلى محيطها"، واكد في المقابل انه "بغياب
هذه التسوية فإن سوريا تزيد من دورها في المحور الراديكالي مع مرور الوقت،
وبالتالي يزداد خطر نشوب مواجهة معها".
مضمون حديثي نتنياهو وبايدتس، وتساوقهما، وعلى خلفية النظرة الاسرائيلية حيال التسوية مع سوريا، توجب ابراز التالي:
التسوية مع سوريا، مطلبا ومخرجا اسرائيليا في نفس الوقت، وتحديدا من
الازمة التي تحيق بها وما يرتبط بالتهديدات القائمة في وجه الكيان
الصهيوني.. وبحسب التنظير الاسرائيلي، فان التسوية التي توصل الى نزع
سوريا من المحور الراديكالي، اي من محور الممانعة والمقاومة، يعتبر هدفا
استراتيجيا اسرائيليا بامتياز، ومن شأنه ان ينعكس ايجابا على مجمل
التحديات والتهديدات ضد الكيان الغاصب.
ويمكن للتسوية ان "تنجي" الكيان المحتل من استحقاقات متطرفة توجب عليها
خوض خيارات مكلفة، على شاكلة الحرب والمواجهة العسكرية، سواء ضد سوريا
نفسها او ضد جهات يتشكل منها محور الممانعة، وفي المقدمة حزب الله..
والمواجهة بحد ذاتها تحمل مغامرة ومخاطر غير حميدة، يقر بها الاسرائيليون
ولا ينكرونها.
وقد برزت التسوية في الكيان الصهيوني كمخرج استراتيجي امام التهديدات،
وبشكل قوي جدا، في اعقاب حرب عام 2006، وفشل الخيار العسكري الاسرائيلي ضد
المقاومة، اذ تبين لصانع القرار الاسرائيلي ان لا امكانية لاجتثاث
المقاومة وانهاء امكاناتها في منعه من فرض ارادته السياسية على لبنان وعلى
المنطقة عموما، الامر الذي اوجب عليه البحث عن خيارات بديلة، واهم هذه
الخيارات نظريا وعمليا، هو خيار التسوية مع سوريا ونزعها عن علاقاتها
الاستراتيجية مع حزب الله.
وترتبط التسوية، كمطلب صهيوني، مع سوريا، على انها قادرة على تحقيق نتيجة
الحرب في حال شنها العدو على حزب الله وانتصر فيها، وهذا ما يجري التنظير
له في الكيان الغاصب في اكثر من موقف ودراسة وبحث، ومن بين المراكز
البحثية التي تولي المسألة اهمية ومتابعة، هو مركز دراسات الامن القومي،
المركز الاهم في الكيان الاسرائيلي، اذ نظم مجموعة من الندوات تحدث فيها
مسؤولون حاليون وسابقون، وصلوا الى خلاصة نهائية، بان التسوية مع سوريا،
ونتيجتها المرجوة، تعني "نجاة" الكيان من ويلات الحرب ومجازفاتها،
وبالتالي يجب العمل عليها حتى مع التقدير بان فرصة نجاحها محدودة، قياسا
بالثمن في الخيارات الاخرى.
المشكلة التي تعترض الكيان الغاصب في التسوية مع سوريا، ترتبط بتقدير
الموقف السوري وإمكانات نزع دمشق لنفسها عن "المحور الراديكالي"، واذا صحت
المعادلة، وهي صحيحة، بان التسوية مع سوريا ستسمح بتغيير البيئة
الاستراتيجية، الا ان تحقيق هذه التسوية ما زالت غير قائمة وغير مقدرة.
المشكلة الاسرائيلية تتركز في ان دمشق لا ترى في الثمن المدفوع لها، او
المقدر دفعه، وهو يتمحور حول الانسحاب من هضبة الجولان وعطاءات اقتصادية و
غيرها، لا يعادل الثمن المدفوع من قبلها، اي التخلي عن خيار المقاومة
ودعمه، بل يمكن القول ان اي ثمن يدفع لسوريا، ومهما كان كبيرا، لا يعادل
المقابل منها، لانها من ناحية عملية تكون كمن تنازل عن مقدراته وامكاناته،
ما يعيد فتح الشهية الاسرائيلية والغربية ضد سوريا، وبالتالي سيصعب عليها
المواجهة لاحقا.
وفي الاساس، تأخر الاسرائيليون كثيرا في طرح "مشروع التسوية" بمكوناته
الحالية، كان الاسرائيليون يراهنون في سنوات الضغط على سوريا، بإمكان
الوصول الى النتائج المرجوة حاليا منها، اي البيئة الاستراتيجية المريحة،
من دون اي تنازلات، اذ كان رهان التقدير الاسرائيلي متركزا على الدور
الاميركي العسكري المباشر في المنطقة، ووضعت تل ابيب كل رهاناتها عليه،
وبالتالي هي تدفع حاليا الثمن والخسارة بالتبعية، نتيجة للتراجع الاميركي
في المنطقة وفشل مشاريعه فيها.
من هنا تأتي التقديرات الاسرائيلية، الجديدة القديمة، حول وجوب التسوية مع
سوريا. فكحديث نظري، تعني التسوية تغييرا ايجابيا في البيئة الاستراتيجية
للكيان الاحتلالي، لانها هي الخيار الوحيد المتبقي في ظل فشل كل الرهانات
الاخرى، لكن كحديث عملي، من غير المقدر ان تتنازل سوريا عن مقدراتها
وامكاناتها في الوقت الذي يبدو انتصارها امام التحديات والضغوط قد انتج
مفاعيله..
لكن ما السبب في اصرار الاستخبارات الاسرائيلية على التسوية، رغم تقديرها
انه لا يمكن الوصول اليها؟ الاجابة في ان ليس للجيش الاسرائلي حلا عسكريا
ضد سوريا وضد المقاومة، وفي نفس الوقت ليس لديها حلا سياسيا، نتيجة
التقدير الصحيح للعناد السوري امام المخططات الجديدة، اي الاغراء بتسوية
تقوم على نزعها عن مقدراتها ومن ثم الاستفراد بها.
سيبقى عسكر العدو الصهيوني ينادون بالتسوية وبوجوب طرق بابها، طالما ان
الخيار العسكري غير قائم، ويكفي الجيش الاسرائيلي والاستخبارات
الاسرائيلية ان تبقى الامور على حالها، في الوقت المستقطع، اي المحافظة
على الوضع الراهن، املا بابعاد شبح حرب لا يريدونها، وايضا املا في ان
يحمل المستقبل تغييرا ما، يكون في صالح الكيان الغاصب.