ايها الأجلاء، نشعر جميعا بوقع الأخطار المحدقة بلبنان، وخصوصا بعد أشهر طويلة ومريرة من الشحن الطائفي على كل المستويات: في الشارع، كما في السياسة. في الإعلام كما في باحات الجامعات. وما يقلقنا حقا، ليس فقط النتائج المباشرة لهذا الشحن، والتي تترجم على الأرض عنفا، وتنابذا، ومخاوف متنقلة. بل ابعد من ذلك، يقلقنا أن يتراجع دور لبنان في محيطه والعالم، وأن تتشوه رسالته، وتصبح تاليا علة وجوده الاساسية عرضة للخطر الشديد.
رسالتكم قوية جدا اليوم أيها الأخوة. فبلقائكم، وأنتم رجال دين من اديان وطوائف مختلفة، تحت سقف سياسي، تقولون للبنانيين والعالم، أن وطننا مبني على القيم والأخلاق وسيادة السلام والمحبة، وأن الساسة فيه يجب أن يكونوا أبناء هذه القيم، ورسل السلام والعيش المشترك، الذي شهدنا بالأمس، في ساحة الشهداء، مع تطويب الأب يعقوب الحداد الكبوشي نموذجا مشرفا له.
لقاؤكم يحتضن هدفا كبيرا وهو جمع اللبنانيين، وتضميد جراحهم، وترميم ما تصدع من جسور بينهم، وتأسيس أرضية متينة للحوار بينهم. بمثل هذه الرؤية فقط، يقوى الوطن وينتفض من كبوته، ويحمل من جديد رسالته، مشعلا في العالم، وللأجيال الآتية.
وإذا قالوا عن هذا اللقاء انه ضرورة وطنية، أقول أكثر. إنه ضرورة إنسانية، لأن وحدة لبنان الوطنية إذا ما تحققت بأبهى صورها، تشكل نموذجا للقاء الحضارات والثقافات، ولتحويل التعددية والتنوع إلى نعمة بناء وتواصل وليس إلى نقمة حروب وصراعات.
أيها الأخوة، ليس غريبا أن يكون للمرجعيات الدينية في لبنان حضور فاعل في الشأن الوطني، فالاحترام الفائق لهذه المرجعيات ما زال يتربى في قلب كل لبناني، اليوم كما في الماضي. فخطابكم المنفتح، والسمح، والمرتكز على قيم الوفاق والقربى والتعاون والحوار، هو صمام الأمان للمجتمع اللبناني، وعنصر جمع لا تفرقة.
من الكنائس والجوامع والخلوات الروحية، تنبع الكلمة التي تساهم في تأسيس شخصية الإنسان في لبنان، وتصقل دعوته إلى الانفتاح، واحترام التنوع، وشراكة العيش في وطن واحد. وتتعزز هذه الشخصية في قلب العائلة المسؤولة، والمدرسة والجامعة حيث يجب أن يتلقى شبابنا خميرة الانصهار الوطني مع الثقافة والعلم.
وكلما كان البناء الداخلي متينا، عجزت السياسات الصغيرة، عن استمالة اللبنانيين إلى دوائرها الضيقة، ومصالحها الذاتية، واهدافها المشبوهة، ووعودها العقيمة. عافية الوطن، من عافية ناسه. وعافية الناس في لبنان، من قربهم من تعاليم الخير والتواصل والانفتاح التي تبثونها في قلوبهم. لا نقول ذلك، لنعفي الساسة من دورهم، والدولة من واجباتها، والمؤسسات العامة من دوران عجلتها بشكل سليم وفعال. لكن ما تزرعونه، له قيمة الأساس في بناء يطمح إلى الوقوف في وجه الريح والعواصف.
ايها الأجلاء، لا يجدر بنا اليوم أن نتعامى عن الدرك الذي وصل إليه لبنان، في السياسة، والاقتصاد، والأمن. والأهم القلق على الوجود والمستقبل. علينا على الأقل ان نبدأ بتحديد نقطة البداية للإنطلاق نحو معالجة المشاكل وتضميد الجروح، والتعافي.هل نستسلم لواقعنا المرير وننتظر المعجزات من الخارج أو من أي مكان آخر؟ وحتى المعجزة إذا مرت بنا، لن تتمكن من شفاء دائنا المستشري. فالله لا يغير في الناس، ما لم يغيروا ما في انفسهم. وآن الاوان ليقول كل لبناني لنفسه: ما هو دوري في تغيير الواقع وإنهاض البلاد؟
دعوتكم، ولي أمل واحد يشاركني به جميع اللبنانيين، وهو أن يؤسس لقاء اليوم، لإطلاق ورشة حوار وطني ترسخ رسالة لبنان ودوره وتعزز وحدة مصير أبنائه من جميع الفئات والأطياف والطوائف. علنا ندرك جميعا، أنه إذا تألم عضو في الجسد، تألم الجسد بأسره. وإذا عانت فئة واحدة في لبنان، أو طائفة، يعاني الوطن بأسره.
خلافات اللبنانيين اليوم وصلت إلى حد الانتحار. وهل من خلاف على هذه الأرض لا يحله الحوار والنقاش بقلب مفتوح ونوايا صادقة؟ فلنعمل منذ هذه اللحظة على إبعاد ما هو داهم من الخلافات والصراعات على الأرض في لبنان، لمنع انعكاسها خلافات مذهبية وطائفية، لا تخدم الا مصلحة العدو الإسرائيلي، ثم ننطلق بعدها إلى البحث في مختلف الملفات الخلافية، وسبل دفع البلاد في مسيرة النهوض والإصلاح والرقي.
أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة، على إسم الوحدة والتضامن التقيتم، ولأجل لبنان الواحد الموحد تعملون، وانا على ثقة أن هذا التوجه هو نفسه توجه جميع المسؤولين الروحيين، الحاضرين بيننا اليوم، أو الغائبين. وفي يقيني أن استكمال قيام الدولة وانتظام عمل مؤسساتها الدستورية وإداراتها، كفيل بجعل الكلمة الفصل للقوانين المرعية الإجراء، فتتعزز المساهمة الوطنية وتتشابك كل الخناصر في سبيل الهدف الأسمى، وهو وحدة لبنان وطوائفه.
ولعل التعبير الأقوى عن هذه الرغبة، يكون من خلال الإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة على نحو يعكس ارادة اللبنانيين وتطلعاتهم إلى غد افضل، ويعبر ايضا عن ارتقاء القيادات السياسية الى مستوى المسؤولية الوطنية الحقيقية تجاه بلدهم وشعبهم، حتى لو تتطلب ذلك تقديم تضحيات وتنازلات، مهما غلت، فانها ترخص أمام مصلحة الوطن الذي يواجه ظروفا بالغة الدقة تفرض وقفة ضمير ومبادرات شجاعة قبل فوات الأوان.
مرة اخرى شكرا لحضوركم وتلبيتكم الدعوة، ولكل الجهود التي تبذلونها، مجتمعين ومنفردين، لمعالجة ما يواجه وطننا من تحديات. وفقكم الله لما فيه مرضاته.
البيان الختامي
وبعد انتهاء القادة الروحيين من مداولاتهم، صدر بيان ختامي عن القمة، تلاه شهاب والسماك، وجاء فيه:
تلبية لدعوة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، عقد رؤساء الطوائف اللبنانية المسيحية والإسلامية لقاء في القصر الجمهوري في بعبدا ضم أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة: الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير (بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة)، البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم (بطريرك الروم الارثوذكس)، البطريرك غريغوريس الثالث لحام (بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك)، الكاثوليكوس آرام الاول كيشيشيان (كاثوليكوس الارمن الارثوذكس لبيت كيليكيا)، البطريرك نرسيس بيدروس التاسع عشر (بطريرك كيليكيا للارمن الكاثوليك)، البطريرك مار اغناطيوس زكا الاول عيواص (السريان الارثوذكس)، الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني (مفتي الجمهورية اللبنانية)، الشيخ عبد الامير قبلان (نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى)، الشيخ نعيم حسن (شيخ عقل الطائفة الدرزية). القس الدكتور سليم صهيوني (رئيس المجمع الاعلى للطائفة الانجيلية في سوريا ولبنان)، المطران مار اثناسيوس متي متوكه (المدبر الرسول لبطريركية السريان الكاثوليك في لبنان)، المطران ميشال قصارجي (رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان)، المطران بولس دحدح (النائب الرسولي للاتين في لبنان)، المطران مار نرساي الياس دي باز (رئيس الطائفة الآشورية في لبنان)، الاب فيلوباتير الانبابيشوي (رئيس الطائفة القبطية في لبنان وسوريا).
وأعرب أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة لفخامة الرئيس ميشال سليمان عن تهانيهم بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية، وعن تمنياتهم له بالنجاح والتوفيق، داعين الله أن يسدد خطاه في اداء مهمته الوطنية الجليلة. وبعدما استمعوا الى كلمة فخامة الرئيس وثمنوا مضمونها، شكروه على مبادرته واعتبروا كلمته جزءا من بيانهم الختامي.
وتوجهوا الى أبنائهم اللبنانيين جميعا، مسلمين ومسيحيين، بأن يتمسكوا بقواعد إيمانهم بالله والوطن، وأن يستنيروا بنور الإيمان لتعزيز أواصر الأخوة والمحبة والاحترام التي تظللهم جميعا. فالمسلم المؤمن كالمسيحي المؤمن، هو ضمان في إيمانه لأخيه في الوطن والإنسانية. وبعد تداول الأوضاع العامة، أجمعوا على ما يأتي:
أولا: تأكيد التزام وحدة الدولة اللبنانية شعبا وأرضا ومؤسسات والمحافظة على السلم الأهلي والعيش الوطني الواحد، والتمسك بالنظام البرلماني الديموقراطي الحر، وتعزيز سلطة الدولة وسيادتها على أراضيها كافة.
ثانيا: احترام صيغة التنوع التي تمثل ميزة لبنان وأساس خصوصيته الوطنية، وذلك حتى يبقى لبنان واحة حرية للحوار الأخوي والبناء. والتمسك بالأسس والمبادئ الدستورية التي أجمع اللبنانيون عليها في ميثاق الطائف، والتي تصون وحدتهم الوطنية وتحافظ عليها.
ثالثا: إدانة التطرف والعنف في مختلف أشكاله، وتأكيد ما ورد في اتفاق الدوحة لجهة الامتناع عن، أو العودة الى، استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية وحظر اللجوء الى استخدام السلاح أو الاحتكام اليه في ما قد يطرأ من خلافات أيا كانت هذه الخلافات وتحت أي ظرف كان. والاعتماد على الجيش اللبناني وعلى قوى الأمن الداخلي وحدهما للمحافظة على الأمن والاستقرار، الأمر الذي يساعد لبنان على استعادة حيويته الاقتصادية ويمكنه من تحقيق التنمية البشرية التي يتطلع اليها والتي تضع حدا للهجرة الاستنزافية الخطيرة التي يعانيها، وتفتح أبواب الأمل أمام هجرة معاكسة تمكن الوطن من استعادة ابنائه المهاجرين.
رابعا: حض مختلف القوى السياسية على اعتماد المؤسسات الدستورية اداة لمعالجة اختلافاتها بالحوار وعلى قاعدة الاحترام والثقة المتبادلين، وإيثار المصلحة الوطنية العليا على كل ما عداها من مصالح. فلبنان الحر السيد المستقل هو أولا، وهو فوق كل اعتبار.
خامسا: دعوة اللبنانيين جميعا وخصوصا القوى السياسية والحزبية الى التعاون مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لتيسير مهمته في تعجيل عملية استعادة العافية الوطنية واستكمال تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، وتثبيت أركان الوحدة والأمن والاستقرار، ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تثقل كاهل اللبنانيين جميعا، وذلك بالتعاون مع مجلس النواب ومع الحكومة اللبنانية العتيدة، التي نطالب بالإسراع في تشكيلها لان كل تأخير في ذلك يعوق انطلاقة العهد الجديد في تحمل المسؤوليات الوطنية التي تضمنها خطاب القسم الرئاسي، وإطلاق ورشة الحوار الوطني في القصر الجمهوري برعاية رئيس الجمهورية.
سادسا: مناشدة أجهزة الاعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة على اختلاف اتجاهاتها واجتهاداتها، وضع حد لتبادل الاتهامات والاساءات والتحريض المذهبي والطائفي، الأمر الذي يتناقض مع القيم الدينية والأخلاقية التي يؤمن بها اللبنانيون، والذين ندعوهم بإلحاح الى تحمل مسؤولياتهم الوطنية والاحتكام الى ضمائرهم. وكذلك مناشدة المسؤولين السياسيين والحزبيين وجميع العاملين في الشأن العام الارتقاء بلغتهم السياسية الى مستوى المسؤولية الأخلاقية والوطنية الجامعة لتجنيب لبنان مساوئ تحويل الاختلافات في وجهات النظر الى أزمات سياسية على مستوى الوطن كله.
سابعا: توجيه الشكر الى الدول الشقيقة والصديقة كافة التي وقفت الى جانب لبنان خلال الأزمة التي عصفت به لما بذلته من مساع خيرة، ومن جهود بناءة من أجل استيعاب تلك الأزمة والمساعدة على حلها، والذي تجسد في ما توصل اليه اتفاق الدوحة.
إن أصحاب السماحة والغبطة والسيادة إذ يؤكدون تمسك اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، بوحدتهم الوطنية وثقتهم بمستقبل وطنهم، وتعلقهم برسالته الإنسانية وبصيغة التنوع والعيش الواحد، يدركون اليوم أكثر من أي وقت مضى أهمية وضرورة المحافظة على هذه الصيغة الانسانية الفريدة التي يعتزون بها. ويهيبون بكل الدول والمنظمات الدولية المختلفة احترام هذه الارادة الوطنية الجامعة حتى يبقى لبنان في وفائه لرسالته منارة في هذا المشرق العربي للحرية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان.
وفور اختتام القمة، استقبل الرئيس سليمان وعقيلته السيدة وفاء سليمان المدعوين الى مأدبة غداء أقامها رئيس الجمهورية على شرف رئيس مجمع تطويب القديسين في الفاتيكان الكاردينال خوسيه ساراييفا مارتينيس، والتي حضرها أيضا رئيس مجلس النواب الاستاذ نبيه بري ورئيس الحكومة المكلف فؤاد السنيورة وشخصيات.