وإذا كانت هذه الحملة تستدعي الإدانة فإنها تبعث على الغثيان من جهة الأدوات الرخيصة المستخدمة فيها، ومن جهة أخرى على الشعور برسوخ الثقة بصوابية الرؤية الإسلامية التي لم يجد أعداؤها الحاقدون سوى الشتيمة في مواجهتها، لأنهم أقل قدراً من أن يقارعوا مضمونها وغاياتها بالحجة أو الكلمة الرصينة.
وما كانت هذه الحملات لتفتّ من عضد الرسالة وحملتها الأمناء، فقد سبق أن تعرّض الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لأشدّ الحملات، وقد أورد القرآن الكريم بعضها، وما زاد ذلك المؤمنين إلا ثباتاً وتحفّزاً إلى التقدّم، فعندما ينحدر الخصم إلى السباب، يكون قد أقرّ بهزيمة فكره وعجز علمه.
ولم تتوقف هذه الحملات، التي تعد مذاهب استشراقية كثيرة استمراراً لها، وهي مذاهب لم تعدُ عن أن تكون جزءاً من عدة الغازي والمستعمر الذي اندحر، وأخذ في الإندحار، بعدما بعث غزوه في المسلمين والأحرار تمسّكاً بهويتهم الحضارية بأقوى مما يكون عليه الأمر في حال غير الغزو.
وإذا كانت حملات الاستشراق قد رمت إلى تعبئة جمهور محدود الثقافة، ونخب منغلقة على مركزية أناها وراء غزو استعماري، فإن الحملات الجديدة ترمي إلى تعبئة جمهور يستمد وعيه بوقائع العصر من قوالب إعلامية مصمّمة، واستخدام نخب لم تغادر التمركز حول الذات وإن تغيّرت المصطلحات من التمدين إلى الدمقرطة. وتستهدف هذه التعبئة تبرير هجمة الهيمنة الأمريكية على العالم، لا سيما الإسلامي منه، تحت عنوان "صراع الحضارات" أو "مواجهة الإسلام الفاشي". وبذا تتحمّل السياسة الأمريكية المسؤولية السياسية والأخلاقية عن هذه الحملات المقيتة التي تسهم فيها أدوات العنصرية والتخلّف.
وفي سياق تبرير الهجمة الأمريكية، يندرج هدف آخر، هو تحويل وجهة الصراع الذي تخوضه الشعوب العربية ضد الاحتلال والعدوان الإسرائيليين، من كونه نضالاً من أجل الحرية والتحرير ضد العنصرية الصهيونية بعدوانها واحتلالها ودمويتها وإجلائيتها، إلى جزء من صراع الحضارات، فيجري تبرير الجرائم الإسرائيلية، جرائم الحرب، وجرائم العنصرية، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والتي تستوجب إدانة وعقاباً.
ولذا تتولى الآلة الدعائية الصهيونية تنشيط هذه الحملات وتمويلها والحث عليها، في محاولة لتزييف حقيقة الصراع ضد "إسرائيل"، ولحماية المجرمين الإسرائيليين.
على أن ذلك كله، وعلى الرغم من كون المتورّطين في الحملات العنصرية مجرد شراذم، لا يعفي الحكومات الأوروبية ومجتمعاتها من المسؤولية، مسؤولية الصمت حيال مقترفي جريمة الإهانة، والمسؤولية عن التقصير في اتخاذ الإجراءات الحائلة دون تكررها، وفي القيام بخطوات توازن، على الأقل، الجريمة والإساءة، بالاعتذار والاحترام والإجلال.
وليس مقبولاً ولا معقولاً أن تكتفي تلك الحكومات بالشرح والتوضيح ونفي المسؤولية الرسمية، بل إنها معنية بمعالجة الأمر على مستويين في الحد الأدنى. المستوى الأول تنظيم حملات متواصلة وفاعلة لتعريف صحيح بالإسلام ونبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله، تستهدف المجتمعات الغربية لإزالة الجهل وسوء الفهم، على أن يكون ذلك جزءاًَ أساسياً من أولويات الدولة لناحية القبول بالتنوع في تركيبتها الاجتماعية، ولناحية تأسيس علاقاتها الخارجية على الاحترام المتبادل والتعاون مع الآخر. المستوى الثاني: القيام بتحركات تجاه العالم الإسلامي تعبّر عن الاعتذار والاحترام، وليس المقصود تحركات عابرة أو موضعية بل مشاريع مستمرة.
ومن غير المعقول أو المقبول التبرؤ من هذه الحملات بشعار حرية الرأي، فقد بات معلوماً أن ثمة محرّمات ثقافية وفكرية تصيب من يمسّ بها بعواقب وخيمة، كما جرى ويجري مع كثير من الباحثين الرصينين، لا مجرد رسامين تافهين. ولا حاجة إلى بيان أن المحرّم الأكبر كان ولا يزال "إسرائيل" والصهيونية وما يمت إليها بصلة.
إن هذا التشديد على ضرورة وضع حد للحملات العنصرية ضد الإسلام ونبيّه الأقدس صلى الله عليه وآله، يقوم على وعي عميق بأهداف هذه الحملات وخلفياتها، وينشأ من حرص أكيد على نظم العلاقات بين المجتمعات الأوروبية والإسلامية على قاعدة الفهم الصحيح والاحترام والتعاون من أجل رفع شأن الإنسانية إلى مراتب عليا، والحؤول دون الاستغراق في وحشية التخاطب والمسلك، كما أنه يأتي للتوكيد على أن الهدف الحقيقي لأتباع محمد صلى الله عليه وآله هو مواجهة الظلم الذي يظهر في هذه الحقبة في نزعة الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية ونزعة العنصرية الصهيونية، لا الدخول في مواجهات جانبية تحرف عن التوجه الأساسي. مع أن هذا التركيز لا يعني التساهل حيال الإساءة التي تطعن في القلب.
وهنا مناسبة لدعوة المسلمين، حكومات وشعوباً، إلى تحمّل مسؤولياتهم أيضاً في الدفاع المسبق عن قيمهم عبر الحرص على نشرها بأساليب إنسانية بعيداً عن لغة التكفير السقيمة. لقد كان ولا يزال في الإسلام وجوه أنارت ظلامية الغرب القروسطية وظلماته المعاصرة. وليس من بأس في أن تخصّص من موازنات الدول، ولو في إطار التعاون الدولي، موازنات خاصة بالتعريف بالإسلام، بدل إنفاقها في حروب بينية عبثية النتائج ومدمرة الآثار.
ونستغرب تلكؤ منظمة المؤتمر الإسلامي عن القيام بدورها المفترض حيال هجمة تستهدف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وإذا كانت هذه المنظمة عاجزة عن تقديم حلول ناجعة لأزمات سياسية، فإن أقل ما ينبغي أن تقوم به هو أن تبذل جهداً ثقافياً تعريفياً بالإسلام، وهو ما لا يلحظه المراقبون ويتساءلون عن دورها ومهماتها.