ليل السابع عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1982، كانت النسوة في صبرا وشاتيلا تأوي وأطفالها الى أكواخ التنك، الشيوخ تجلس في زوايا الأزقة، تحمل عكازها المصقول من سنديان "حيفا" وأشجار "جبل الزيتون".. يحرسون الأطفال والأكواخ خوفًا من قطاع الطرق.. أمّا خارج المخيم، فكان شتات اليهود يجمعون أدواتهم ويوجّهونها في طرق إبادة المدنيين.
في ذلك الليل، كانت تتردد في أرجاء المخيم صرخات الثكالى والأطفال وتأوهات النسوة وبكاء الشيوخ، وعلى المقلب الآخر، أصداء قهقهات ذئاب يهودية تلمع في أيديها نصول الحراب الموشحة بالدم.
بكاء وصراخ ودم، ذبح واغتصاب، ودبابات اسرائيلية تحاصر مداخل المخيمات، وعناصر "القوات اللبنانية" ـ الجناح العسكري للكتائب اللبنانية ـ داخل صبرا وشاتيلا تطبق الدرس الصهيوني. هذه صورة موجزة عما جرى في تاريخنا الغابر، يومها كان العرب نيامًا في أحضان أميركا والغرب المستكبر.
ماذا لو كانت مجازر صبرا وشاتيلا قد حدثت في بلد آخر غير لبنان يحسن فيه المجتمع المدني إدارة قضاياه؟ ماذا لو كانت صبرا وشاتيلا حدثت في بلد غير عربي؟ هل كان بإمكان العالم أن يتجاوز مفاعيلها؟
شهادات..
"كنت في جولة في مخيم "صبرا - شاتيلا" بعيد المجزرة الرهيبة عام 1982، حين شاهدت غسيلًا منشورًا على حبال في باحة منزل، وما زالت آثار الدماء عليه وامرأة مذبوحة بقربه، وما زال في يديها بعض من قطع ملابس أطفالها التي كانت تنشرها قبل أن تُقتل". هذا المشهد روى تفاصيله مراسل صحيفة "اندبندنت" البريطانية في بيروت حينها روبرت فيسك بعد جولة له على المخيم في إثر المذبحة.
الكاتب الاسرائيلي أمنيون كابليوك دوّن في كتابه "تحقيق في مجزرة" أن المذبحة استمرّت لمدّة 40 ساعة متواصلة بصورة وحشية قلّ مثيلها "فقد كانوا يطلقون النار على كل ما يتحرك في الأزقة، ويحطمون الأبواب ويقومون بتصفية عائلات بأسرها أثناء تناولها طعام العشاء، وقتل البعض وهم في الأسرّة أو ملابس النوم، وتم العثور على أطفال في السنة الثالثة والرابعة وهم في ملابس نومهم ملفوفين بأغطية مدماة.. كان المهاجمون يقطعون أعضاء ضحاياهم قبل الإجهاز عليهم، وكانوا يسحقون رؤوس الأطفال على الجدران، وجرى اغتصاب الفتيات قبل قتلهنّ بضربات الفؤوس".
يستجمع أحد فلسطينيي المخيم شتات ذاكرته مرغمًا "لا أذكر سوى أني هربت، وعندما عدت رأيت الناس على طول هذا الطريق (الذي يربط صبرا - شاتيلا بمستديرة السفارة الكويتية)، ملقين على الأرض، الرؤوس مقطعة بالبلطات، الحوامل بطونها قد بقرت". ويستذكر آخر: "جاؤوا بالجرّافات وهدموا البيوت فوق أهلها، ومن قتل بالرصاص كان عليه أهون ممن وضع حيًا تحت التراب".
يقول ماهر مرعي أحد الناجين من المجزرة إن والده الذي أحس بوقوع المجزرة رفض مغادرة منزله، فجارتهم ليلى كانت قد لجأت الى منزلهم للمبيت عندهم في تلك الليلة بعد خروج زوجها مع المقاتلين على متن إحدى البواخر، وفي قوانين الوالد "لا يجوز أن نتركها ونرحل". يروي ماهر بعض تفاصيل تلك الليلة: "سمعنا طرقًا عنيفًا على الباب، وعندما فتحنا لهم أخذوا يشتموننا، وأخرجونا من المنزل ووضعونا صفًا أمام الحائط يريدون قتلنا. أرادوا إبعاد ليلى إذ ظنوا أنها لبنانية لأنها شقراء، كما أبعدوا أختي الصغيرة معها لأنها شقراء أيضًا بعد أن ظنوا أنها ابنة ليلى. أخذت أختي تصرخ وتمد يدها الى أمي تريد الذهاب معها. كان جارنا حسن الشايب يحاول الهرب خلسة من منزله، فأصدر صوتًا وضجة أخافتهم، عندها أدخلونا الى البيت وهم يكيلون لنا الشتائم، طلبوا من والدي بطاقة هويته، وما إن أدار ظهره ليحضرها حتى انهال الرصاص علينا جميعًا. لم أعرف كيف وصلت إلى المرحاض واختبأت فيه، وفي طريقي وجدت أخي الأصغر اسماعيل فأخذته معي وأقفلت فمه. رأيت من طرف باب المرحاض كل عائلتي مرمية على الأرض ما عدا أختي الصغيرة، كانت تصرخ وتحبو باتجاه أمي وأختي.. وما إن وصلت بينهما حتى أطلقوا عليها الرصاص فتطاير دماغها. اسماعيل وأنا لم نتحرك، لزمنا الصمت فترة، لم أعد أستطيع التنفس، فحاولت بلع ريقي لاستعادة تنفسي، وكنت مترددًا في فعل ذلك، خفت أن يسمعوا الصوت ويأتوا لقتلي من شدة السكون الذي سيطر على البيت.. لكنهم لم يسمعوني، فقد خرجوا بعد أن نفذوا جريمتهم".
أن يصدّق المرء أنّ صوت ريقه يمكن أن يسمع فيتردد في بلعه، وأن يوهم رجل القتلة بأنه مات دافنًا رأسه تحت بطن جثة بجانبه، وأن ينجو طفل لأن أمّه قالت للسفاحين "هذه بنت"، وأن تنبت فيما بعد خصلة بيضاء في شعر الطفل المرعوب، وأن يمزّق رجل أجزاء من ثيابه ليلف بها الأطفال العراة، وأن تشاهد أم زوجها وأبناءها مذبوحين على شريط الفيديو فتصاب بجلطة في الدماغ وتتحول الى مجرّد صورة تتوه في الطرقات، ويهب ذووها للبحث عنها هنا وهناك، أن تلملم شظايا كل هذا الزجاج المكسور من دون أن تدمي أصابعك وذاكرتك ويوشم حاضرك ومستقبلك، فهذا يعني أنك بلا تاريخ، ومن لا تاريخ له.. لا مستقبل له.