لطيفة الحسيني
سبعٌ والحضور باقٍ. كمَنْ يستوطن القلوبَ والعقول الى ما لا نهاية. الحالُ مع غياب القائد الشهيد السيد مصطفى بدر الدين غريبٌ، لأنه استثناءٌ في حياته، لم يأفلْ نجمُه بعد ارتقائه. الأصحابُ، الرفاقُ، العائلةُ، تلامذتُه ومجموعاتُه القتالية جميعهُم يُلازمون إرثَه وما جناه في سنوات كفاحه.
على امتدادِ مراتب الإخلاص للخطّ الحسيني، تنقّل القائد العسكري للمقاومة الإسلامية. مع مرورِ أعوام الشهادة، لا تُغادر صورة السيد ذو الفقار أذهان الأحبابِ ومن واكبه منذ الصبا. قد يكون السيد نواف الموسوي أكثر الأخلّاء قُربًا منه. تسأله عن رفيقه في الملكوت الأعلى، فيستفيض في استعادة ما عايشه معه.
في جعبة الموسوي حكايا وتجارب و"عِشرة عمر" مع القائد الشهيد، لكنّه يرى أن اسمي القائد الشهيد الحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين مقترنان لا ينفصلان، والحديث عن أحدهما يقود الى الآخر. من هنا، وقْع خبر اغتيال الحاج رضوان يتشابه تمامًا مع نبأ ارتقاء السيد ذو الفقار بالنسبة إليه. وجود كليهما كان يبعث على الطمأنينة وكأنهما درعٌ وسيفٌ ضارب.
وَجَد الموسوي في السيد مصطفى قرينًا مُؤنسًا ثابتًا يجمعه به نهجٌ إيماني وثوريّ انتميا إليه باكرًا جدًا. يقول "كنتُ في الخامسة عشرة في ثانوية الغبيري التي كانت مُلاصقة لدارة أهله، إلّا أن أول لقاء طويل بيننا سُجّل في ليلة القدر التي أحييناها للمرة الأولى في حياتنا سويًا".
نخوة السيد
اسمُ السيد مصطفى يعني للموسوي النخوة والشهامة والإخلاص والوفاء. هنا يستذكر حادثة حصلت بعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، فيسرد "في ذلك الوقت انتشرت قوات أمين الجميل في الضاحية الجنوبية، وكانت إمكاناتنا معدومة، حينها كنتُ عائدًا مع أخويْن من مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد بعد قراءة دعاء كميل، مع وصولنا الى مسجد الإمام الحسين (ع) التقينا برفاقٍ لنا هناك الى أن وصلت دورية أمنية مؤلفة من 4 آليات. اعتُقل الشابان وأنا استطعتُ الفرار، ومباشرةً توجهتُ الى منزل السيد مصطفى في الغبيري فقال لي: "هيّا بنا"، وانطلقنا في سيارة والده متسلّحًا بـ"كلاشين" ومُركّزًا باتجاه دورية المخابرات لخوض اشتباك معها والإفراج عن المعتقليْن، غير آبهٍ لحجمها".
بحسب الموسوي، لا يستنجد مظلومٌ بالسيد مصطفى إلّا ويُلبَّى طلبه، وهذا ما كان يُميّزه عن أيّة شخصية عايشتُها. إغاثة الملهوف صفةٌ لازمته في كلّ حياته.
ينقل الموسوي عن القائد الشهيد تفضيله لتسمية الشهداء بأسمائها الحقيقية، وكان يقول حرفيًا "عرّفوا الحاج عماد مغنية باسمه".
الإعلامي..
أسّس السيد مصطفى قواعد إعلامية في عمل المقاومة طيلة فترة جهاده. يُبيّن الموسوي أن القائد الشهيد أدرك باكرًا أهمية العمل الإعلامي وأثره على الحرب العسكرية، لهذا أدخل بصورة فعّالة الأدوات الإعلامية والنفسية في سنوات المواجهة مع الصهاينة والتكفيريين، ونسجَ علاقات مع صحافيين لحفظ هذا الإرث المقاوم، وقد ظهر ذلك من خلال أكبر إنجازيْن حققّهما وقادهما في تاريخه عبر عملية أنصارية التي أدت الى خرق بثّ طائرات التجسّس الاسرائيلية، وعملية تصفية قائد وحدة الارتباط في جنوب لبنان إبّان الاحتلال إيرز غيرشتاين".
الأدمغة عنوان الجهاد
حربُ الأدمغة عنوان جهاد السيد مصطفى. الموسوي يلفت الى هذه السِمة التي طبعت مسيرته، ويُشير الى أن القائد الكبير كان يُقيّم كلّ عملية عسكرية تُنفذ من خلال الأداء الصهيوني وكيفية التعامل معه، مُتّخذًا إجراءاته لاحتواء ما يفترض العدو أنه يقوم به من احترازات مقابل مجموعات المقاومة، مُركّزًا على ضرورة الاستفادة من الإمكانات والكمائن التي كان ينفّذها العدو ولا سيّما على صعيد صناعة العبوات وتجهيزها بما يضمن تفجير الآليات الاسرائيلية بشكل كامل.
كرّس القائد الكبير، وفق الموسوي، مفهومًا عسكريًا أضحى "دستورًا" لا يحيد عنه: عدم الوقوع في الخطأ مرتيْن، والقتال بشراسة دون تسجيل خسائر بشرية قدر المستطاع والعودة بكلّ المجاهدين أحياء. وعليه، تخطّى كلّ التحديات والحدود الحمراء وتلك الشاقّة. في سورية، بدا أسد الميدان الذي لا يهاب عدوًا، ولا يخشى قطع المسافات الكبيرة والتمركز خلف خطوط التكفيريين، مُنفّذًا معظم المهام بيده.
أسرَّ السيد مصطفى للموسوي في إحدى المرات أن أوّل إنجاز للمقاومة في سورية كان انكشاف كلّ المجموعات التكفيرية أمامها، مع تركيباتها وأماكن انتشارها وكيف تتحرّك، وهذا ما دفع بالقائد الشهيد الى استعادة أحد الإخوان الأسرى من قلب النار بمجرّد عِلمه أين هو، فنفّذ عملية أمنية في عمق التكفيريين ثمّ احتجزَ عددًا منهم مقابل الإفراج عن الأسير في المقاومة.
لطالما شدّد السيد مصطفى على أهمية جمع أكبر عدد من المعلومات حتى تكون الإصابات دقيقة، مازجًا بين العمل الأمني والعسكري لتحقيق إنجازات كبرى تُحسب في ميزان المقاومة.
قُرْب الأجل
بعد سبع سنوات على فقْد الرفيق، يستذكر الموسوي لقاءه الأخير مع السيد مصطفى، فيروي "التقيتُه قبل فترة قصيرة من استشهاده، حينها ذهبتُ بمهمّة كلّفني بها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الى سورية. سهرتُ معه وكان شاعرًا بقُرب الأجل. قال لي: أنا أعرف منذ أن سرتُ بهذا الطريق سأصل في النهاية الى الاستشهاد واليوم أعرف أن كلّ العناصر أصبحت متوفّرة وأشعر بأنها قريبة، والمهمّة التي جئتُ من أجلها الى سورية أُنجزت".
بطلًا وأنيسًا، هكذا يرى الموسوي السيد مصطفى. صحيح أن الفراق صعب، غير أن الشخصية الاستثنائية لا تُغادره في كلّ المحطّات. طريق الجهاد طويلٌ والنزال لا يعرف الاعتكاف: إمّا نصرٌ أو شهادة، كما قال يومًا مصطفى بدر الدين.