بغداد - عادل الجبوري
رغم أن هناك عواملًا وظروفًا وأسبابًا عديدة مختلفة، ساهمت في ارساء وترسيخ أسس ومبادئ وثوابت الثورة الايرانية بهويتها الاسلامية والانسانية والعقائدية، إلا أن الدور الأكبر كان لزعيمها وقائدها ومفجرها الامام الخميني (قدس سره الشريف)، فهو أطلق شرارة الثورة من المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة في عام 1963 بخطاب مجلجل ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان في ذلك الحين يتمتع بأوج قوته وسطوته بفضل الدعم الاميركي والبريطاني الكبير له.
ولا شك أن مفجر الثورة الإيرانية وقائدها الامام الخميني، يعد واحدًا من أبرز الشخصيات في التاريخ المعاصر، التي أسهمت في إيجاد نهضة إنسانية عالمية، عبر حركة جهادية تبلورت وتكاملت عبر عناوين ومظاهر متعددة امتدت لما يقارب الستة أو السبعة عقود من الزمن. ولم يكن الامام مجرد زعيم سياسي هدفه الوصول إلى السلطة والحكم بقدر ما كان مصلحًا عالميًا كبيرًا، قاد مشروعًا شاملًا للتغيير والاصلاح.
ومن الطبيعي أن تحليل ماهية مفردات ومفاهيم الثورة الايرانية، واجراء مقاربات بينها وبين مفردات ومفاهيم منظومات ثقافية وفكرية أخرى، يمكن له أن يساهم في اجلاء الجانب الآخر من صورتها، والذي لم يكن واضحًا بما فيه الكفاية للذين كانوا يراقبون تفاعلات الوقائع والأحداث من بعيد، ولم تتح لهم الفرصة للاقتراب من مسرحها كثيرًا.
ففكر وشخصية مفجّر الثورة، ساهما إلى حد كبير في جلاء صورة الواقع بدقة ووضوح، حيث لا يمكن للمتابع أو الباحث الوقوف على حقائق الثورة الايرانية ويشخصها بدقة ما لم يتوقف عند الخطاب المتعدد الأبعاد والجوانب الذي تبناه الامام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة في عام 1963 وحتى رحيله في عام 1989، بل وحتى بعد رحيله، ذلك الخطاب الذي شكل ثوابت ومبادئ النظام السياسي الاسلامي في ايران، والاطار العام لمنهج محور المقاومة.
ولعل شمولية وعالمية الثورة الايرانية، ارتبطت بشمولية وعالمية شخصية الامام الخميني، التي جعلته دائم التأثير والحضور في المشهد العالمي، بأبعاده السياسية والفكرية والثقافية والانسانية، وملهما للكثيرين، حتى من اتباع الديانات الاخرى غير الاسلامية، وأصحاب الأفكار والنظريات والآراء البعيدة عن الفكر الاسلامي.
وفي هذا السياق، يصف القس المسيحي الماروني يوحنا عقيقي، الامام الخميني بأنه "كان عنصراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، وشخصية بارزة صانعة للتاريخ، وقد استطاع أن يغير مخططات الجغرافيا السياسية المهيمنة على منطقة الشرق الاوسط.. وهو لم يحيي البعد الروحي فقط، بل والبعد الانساني ايضًا، وليس للشعب الايراني وحده، وإنما للانسانية بأسرها أينما وجدت".
فيما يقول وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر، وهو الذي يعد من بين ابرز الشخصيات المؤثرة في المنظومة السياسية والفكرية المعادية للثورة الايرانية "لقد جعل آية الله الخميني الغرب يواجه أزمة حقيقية في التخطيط، لقد كانت قراراته مدوّيةً كالرعد بحيث لا تدع مجالاً للساسة والمنظرين السياسيين لاتخاذ أي فكر أو تخطيط. لم يستطع أحد التكهن بقراراته بشكل مسبق. كان يتحدث ويعمل وفقاً لمعايير أخرى، تختلف عن المعايير المعروفة في العالم، كأنه يستوحي الإلهام من مكانٍ آخر، إن معاداته للغرب نابعة من تعاليمه الإلهية، ولقد كان خالص النية في معاداته أيضا".
ولأن الامام الخميني أقام في العراق، وتحديدا في مدينة النجف الاشرف، ما يربو على الثلاثة عشر عامًا من مسيرة رحلته القسرية في المهجر، أي منذ عام 1965 وحتى عام 1978، ولان هناك الكثير من القواسم الدينية والثقافية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية المشتركة، فضلًا عن افرازات الثورة الايرانية واندلاع الحرب المفروضة بين العراق وايران، بعد حوالي عام ونصف العام من انتصارها، لذا فإن صدى الثورة وانعكاساتها وصلت الى العراق سريعًا، إن لم تكن بعض مقدماتها قد تبلورت ونضجت بالاساس من هناك.
وقد كان معبّرًا وعميقًا جدًا وصف المفكر الاسلامي الكبير اية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر لانتصار الثورة الايرانية، بقوله: "ان الامام الخميني حقق حلم الانبياء"، الى جانب ذلك، فإن الدستور الايراني بعد انتصار الثورة، استوحى مجمل مضامينه وافكاره من كتاب الشهيد الصدر الموسوم (لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية)، الذي أنجزه قبل فترة زمنية قصيرة من انتصار الثورة، وتمت ترجمته الى اللغة الفارسية، وانتشر على نطاق واسع بين الأوساط الحوزوية، وحظي باهتمام كبير من النخب السياسية والعلمائية والاكاديمية الايرانية، حيث تجلى من خلال الصياغة النهائية للدستور الايراني. ولا شك أن التأييد المعلن والصريح من قبل الشهيد الصدر للثورة الايرانية وقائدها الامام الخميني، دفع نظام حزب البعث في العراق حينذاك الى الاسراع بإنهاء وجوده، وهذا ما حصل بالفعل، حينما تم تنفيذ حكم الاعدام به مع شقيقته السيدة امنة الصدر(بنت الهدي) في الثامن من نيسان-ابريل 1980.
ومع استمرار دعم واسناد الجمهورية الاسلامية الايرانية للشعب العراقي في نضاله ضد نظام الحكم في بغداد، ازدادت الوشائج والروابط، وتنامى تعاطف العراقيين وتأييدهم واسنادهم للثورة والدولة في ايران، رغم ما أفرزته وخلفته حرب الثمانية اعوام(1980-1988) من مشاكل وازمات عميقة بين البلدين. وبرزت نتائج ومعطيات وثمار تلك الوشائج والروابط بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، اذ كانت ايران في مقدمة الدول التي اندفعت وسارعت الى الانفتاح على العراق، وتقديم الدعم له في شتى المجالات، والسعي الجاد الى حل ومعالجة القضايا والملفات العالقة معه.
وكان هذا التوجه جزءا من سياسة ايران الخارجية التي تبنت مبدأ الانفتاح والتواصل مع مختلف الاطراف، بما يساهم في تعزيز الامن والاستقرار الاقليمي، ويكرس المصالح المتبادلة، ويعالج الازمات المتشابكة. ومما لا يختلف عليه اثنان هو ان الجهورية الاسلامية الايرانية نجحت الى حد كبير جدا في بناء علاقات متوازنة مع محيطها الاقليمي رغم اجواء ومناخات الحروب والصراعات الدموية، وكذلك نجحت في بناء علاقات متوازنة مع مختلف اطراف المجتمع الدولي، سيما المهمة منها، كالاتحاد الاوروبي واليابان وروسيا والصين، واضطلعت بأدوار ايجابية في معالجة أزمات ومشكلات غير قليلة، وأفلحت في احباط كثير من المؤامرات والمخططات الهادفة الى زعزعة استقرارها الداخلي، واقحامها في دوامة صراعات وصدامات مع هذا الطرف أو ذاك من أجل اضعاف قدراتها وامكانياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وبالتالي فهي باتت تمثل لاعبًا فاعلًا ومؤثرًا ليس على الصعيد الاقليمي فحسب، وانما على الصعيد الدولي، وباتت تشكل رقمًا صعبًا في المعادلات السياسية لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه أو تجاهله أو القفز عليه.
وذلك النجاح، هو في الواقع جزء من النجاح في التوفيق والمزاوجة بين ثوابت ومباديء الثورة، وبناءات وسياسات الدولة، وتلك مهمة لم تكن سهلة ويسيرة في خضم بحر متلاطم من المصاعب والتحديات والمؤامرات، بيد أن المقدمات والأسس الصحيحة، أفضت الى نتائج ومخرجات سليمة.